مغامرة التجريد في غابة المشاعر

يخوض عقلنا البشري مغامرته الفريدة في جنبات المتاهات الشعورية التي تتاخم الفراغ المحيط بقبة الهياكل الشبحية، بعد أن يتقد بطاقة المنبع الخلاق. وبين ذروة التجريد الفكري وقمة الإحساس ثمة تبادل طاقي يشعل الأجساد فيدور الكون بأسره في استغراق الشغف الأخاذ.. فإذا انتثرت أشعة الشمس من اتساع اللانهائي وأفاضت على جنة الأمهات، قامت المحاكاة فينا من خلال حاسة العين التي تكثف الإشارات وتطلق الرؤية المتقدة في العقل وتوقظ الأحلام المتوغلة في غموض الأسرار.. وكمحاكاة فنية سينمائية مميزة للتجربة الإنسانية، يخوض المخرج جوناثان غلازر مغامرته الخاصة في فيلمه Under The Skin))، ليرسم انطباعات سريالية عن أطوار الجنس بوصفه إسقاطاً في المستوى الحسي لطاقة الخلق. 

يبدأ الفيلم بمشاهد تجريدية تعطي انطباعاً بأجواء بدء التكوين، من الإشعاعات المنتثرة وسط الظلام الكوني، الى تجمع الدوائر المتسعة حول مركزية الشمس، ثم دخول كوكبين في المحاق، وصولاً إلى حدقة العين البشرية ذات اللون المماثل لحقول القمح الناضجة، وانتهاء بأحرف تتجمع لتصنع الكلمات.. ويكتمل المشهد بامرأة عارية تجرد أخرى فاقدة الوعي من ثيابها، ضمن مساحة خالية بيضاء، ثم ترتدي ملابسها وتتهيأ لاقتحام تجربة الحياة في إيهاب الأنثى، بينما دمعة حزينة تلون وجه الضحية المسجاة، كإشارة إلى ألم الخوض في مغامرة الحواس، وبالتالي ستتكرر الدمعة في عين الأنثى الغازية حين تنتزع الرأس الجميل في نهاية الفيلم.. وهو اختزال بارع خفي لقصة التخلق الأنثوي عبر طاقة الجنس، والذي يبتدأ بالفضول ومتعة استشعار الغواية وممارستها، فنرى الأنثى التي لا تحمل اسماً تتجول في أماكن التسوق لتنتقي ملابس مثيرة وقلم حمرة لافت للنظر، وصولاً إلى اكتمالها بصفة الإلهة التي تقوم بالصيد، فتستدرج الرجال إلى منزل لمسرح مهجور غارق في الظلام العدمي، حيث تغرقهم الشهوة في لجة عاتمة ذات سطح صقيل يعكس انتصار الأنثى وامتصاصها لطاقة الذكر، بينما نرى الذكور وقد تلاشت طاقتهم مع احتفاظهم بتأجج الشهوة وصولاً إلى تقلصهم المادي واختفاء شكلهم الإنساني، ثم يشير دخول المسخ إلى تغير في قواعد اللعبة، إذ تهتز ثقة الأنثى بنفسها وتترنح بفعل الطاقة المتناقصة حين ينجو المسخ) الرجل المشوه من المصيدة، وبالوقت نفسه يتغير مزاجها من المرح والخفة إلى الإحباط والذهول وصولاً إلى التشتت الذي يتفجر عنفاً في حادثة قتل رجل الشاطئ المنهك بحجر بعد أن تجاهل نداءها، الأمر الذي يستنزف قواها، فتستدعي شفقة رجل عابر يحرض الحالة الإنسانية بداخلها من خلال التعاطف مع ضعفها، ويتوضح الانتقال في مكان الاتصال من المسرح إلى منزل يشع بالألفة والأمان، مما يفعل الاتصال عبر شرارة الحب المتبادل، لكن التجربة لا تكتمل بسبب الخواء الذي يولده جوفها المفرغ، إذ لا يوجد بداخلها مكان حقيقي لاستقبال المادة الحيوية، وبذلك تدفعها الصدمة للهروب ورفض تلقي المساعدة من الرجل، مما يعرضها للمطاردة والاغتصاب من قبل حارس الغابة، وهنا يضعنا المخرج أمام المفاجأة، حين ينشق الجلد عن كيان أسود يشبه التمثال الحجري، والذي يخلع الرأس الجميل ويضعه بحسرة جانباً مع دمعته الحزينة، ليسكب الحارس النذل الوقود على ضحيته، فتشتعل وتحترق كلياً، ويتصاعد الرماد عالياً، ليخمده تساقط الثلج فوق غابة المشاعر الإنسانية المتشابكة.        

يعكس الفيلم الخوف المتبادل بين الرجل والمرأة في رعب العدم المتاخم للتجربة الإنسانية وشرطيتها.. ورغم التلميح لفكرة الغزو الخارجي للكيان البشري تحت ملمح الجلد، إلا أن التمثال الأسود الذي احترق أمام الغابة يشير بوضوح إلى خواء المغامرة الفردية حين تفتقر إلى شغف المشاعر وتوق التأجج الخلاق..

العدد 1105 - 01/5/2024