منتدى «دافوس» يدير ظهره للفقراء!

منتدى (دافوس) هو منتدى يجمع في جلساته ومناقشاته العلنية والسرية أباطرة المال والسياسة في العالم، وقد دخل عامه الخامس والأربعين في هذا العام 2015 بانعقاده في دافوس السويسرية الجميلة ذات الطقس البارد. أما الحضور فهم رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية واقتصاد ومال وحكام بنوك مركزية ومديرون ورؤساء شركات تقدر أصولها وأحجام أعمالها بمليارات الدولارات، وتفوق موازنات بعضها موازنات دول مجتمعة.

والأسئلة التي تدور في الأذهان: لماذا تقام هذه التظاهرة الاقتصادية السياسية العالمية المكلفة سنوياً؟ وما هو مردودها على العالم، لاسيما على الفقراء منه؟ إلى أين يمضي العالم في ظل التفاوت الكبير في مستوى الدخول بين الناس والدول؟

المنتدى في حقيقة الأمر هو منصة لجمع كل أصحاب القرار الاقتصادي في العالم لمناقشة التحديات والمستجدات في النظام العالمي الجديد. وبالمناسبة فإن 67% من المشاركين في المؤتمر هم من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا والاتحاد الأوربي. وعلى سبيل التجميل والتلميع والدعاية، تُدعى إلى المنتدى عيّنات من نجوم الإعلام ومن منظمات المجتمع المدني التي تعمل على مواضيع اقتصادية وإنسانية وبيئة، مثل مكافحة الفقر وتشجيع ريادة العمل وغيرها، كما تدعى إليه بعض المنظمات الدولية، سواء الأمم المتحدة أو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وذلك بهدف إعطاء المنتدى المزيد من البريق والثقل.

والآن، ماذا كان على جدول أعمال منتدى دافوس لهذا العام 2015؟

لقد كان على أجندة أعماله سبعة محاور رئيسية تمثل أهم التحديات الاقتصادية العالمية:

الأول- عدم المساواة والتفاوت في الثروات والدخول.

الثاني- انخفاض أسعار النفط والتأثير الشديد لذلك على الأسعار العالمية.

الثالث- التهديدات الإرهابية وعدم الاستقرار السياسي، خاصة في الشرق الأوسط.

الرابع- حزمة التيسير الكمي التي أعلنها المصرف المركزي للاتحاد الأوربي وآثارها على اقتصادات الدول، وهي (حزمة تحفيزية) للاقتصاد الأوربي من المتوقع أن تتجاوز التريليون يورو، وتتألف في جوهرها من طبع أوراق نقدية وضخها في الأسواق لتوفير السيولة وتحريك الاقتصاد وتجاوز الركود أو الجمود الاقتصادي.

الخامس- التكنولوجيا وشعار مستعار من العبارة المطبوعة على الدولار، بأن ثقتنا هي بالله، لتصبح (ثقتنا بالتكنولوجيا). ولوحظ أن هناك حضوراً بارزاً وسيطرة واضحة في المنتدى لشركات الهواتف المحمولة وصناعة البرمجيات على الشبكة العالمية.

السادس- التغيرات المناخية وخطورتها على كوكب الأرض والسياسات الواجب اتباعها، والاستثمارات اللازمة.

السابع والأخير – هو الأوبئة، مثل (الإيبولا).

بداية تجدر الإشارة إلى أن حدثين مهمين سيطرا على أجندة المنتدى وهما:

1- تقرير منظمة (أوكسفام) التي تعمل على مكافحة الفقر في العالم، وكان بالفعل تقريراً صادماً، فقد جاء فيه أن 80 مليارديراً يملكون ما يملكه 5,3 مليارات شخص في العالم، أي نصف مجموع سكان الكرة الأرضية. وأضاف التقرير أن 1% من مجموع سكان العالم يتجاوز ما يملكونه ملكية الـ99% الآخرين.. وهذا سينعكس سلباً على الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يعطي مؤشراً واضحاً على أنه في الوقت الذي يضع فيه منتدى دافوس عدم المساواة في الدخول بين الناس والدول على جدول أعماله كل عام، يتضح أن هذا التفاوت بين الأغنياء والفقراء في الدخول وحتى في الدولة الواحدة كبير جداً، إلى جانب توسع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة.

2- الحدث الثاني المهم، هو حزمة التيسير الكمي على دفعات التي أعلنها البنك المركزي الأوربي، والتي أشرنا إليها قبل قليل، لتحريك الاقتصاد الأوربي ودعمه. وتقول تصريحات مسؤولي صندوق النقد الدولي (إن المبالغ المتأتية من حزمة التيسير الذاتي الأوربية ستؤثر سلباً في توزيع الداخل، وستزيد من الفوارق في الثروة والدخول بين الفقراء والأغنياء)، خاصة أن هناك اتفاقاً يسمى (اتفاق ماستريخت) يحظر على الدول تمويل نفقاتها ومشاريعها بطبع الأوراق النقدية.

وتقول بيركلي لورا تايسون، الأستاذة في الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة كاليفورنيا: (على الرغم من الجهود الكبيرة لمعالجة آثار الأزمة المالية العالمية لعام ،2008 إلا أن التفاوت الكبير في الدخول والنمو الاقتصادي الذي ينعكس انعكاساً عادلاً على معظم المواطنين، لم يستحوذ على اهتمام صُناع القرار الاقتصادي في العالم).

ويؤكد أكثر من مصدر مالي موثوق على هامش المنتدى أن حزمة التيسير الأوربية ستزيد من حدة التفاوت في الدخل، لأن معظم أوراقها النقدية سيضخ في الأسواق المالية.

باختصار، يقول خبراء اقتصاد ورجال أعمال ومال شاركوا في المنتدى: (إن السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تخفيف التفاوت في الدخل وتحقيق قدر معقول من المساواة، لن تؤدي إلى تحقيق الرفاه للبلدان التي تتبعها)، وهذا ما ينذر بالمزيد من التغول لمصلحة قوة الرأسماليين والأغنياء، على حساب قوة العمل وطبقة الفقراء الواسعة في العالم.

وبالطبع يمكن توقع تحقق مثل هذه الأفكار والمواقف والتوقعات في ظل عامل هام هو أن المشاركين في المنتدى هم أصحاب المليارديرات الذين ينتمون لفئة الـ1% من الدول الذين يملكون الـ50% من ثروة الكرة الأرضية، إذ إن 1700 طائرة خاصة أوصلت بعض المشاركين إلى المنتدى!

إن النظام العالمي الجديد الذي وضعت مكوناته الدول الأغنى والأقوى في العالم وبرعاية المنظمات الدولية المُسيطر عليها من قبلها، تقوم مكوناته على مجموعة أسس منها:

– تبني معايير واتفاقيات دولية ترسي قواعد التجارة الخارجية التي ترعاها منظمة التجارة العالمية، هذه المعايير تجعل التجارة حرة، إلا أنها غير عادلة، ومنها على سبيل المثال ضرورة التزام الدول الراغبة في دخول المنظمة بشرط حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع في صناعات محددة مثل  (الدواء).

– النظام المصرفي العالمي المصمم بعناية لضمان سيطرة الأقوياء والأغنياء وفرض شروطهم.

– ارتباط الاقتصاد بالسياسة، إذ تفرض العقوبات الاقتصادية على الدول والشعوب لأغراض سياسية، مثال على ذلك العقوبات على روسيا وإيران وسورية وغيرها من الدول، وكل ذلك يؤدي إلى البؤس والفقر ومضاعفة ثروات الأغنياء.

أخيراً.. في هذه الأيام تؤكد الإحصاءات والمؤشرات الاقتصادية على مستوى العالم أن الاقتصاد العالمي، بما يحكمه من معايير مزدوجة وغير عادلة ومسيسة، يجسد (شريعة الغاب)، فالدول  الغنية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي واليابان تطرح الحزم والسيولات المالية في الأسواق لمساعدتها على تحفيز اقتصاداتها وتعافيها، بينما تبقى الدول الفقيرة تحت رحمة شروط صندوق النقد الدولي المجحفة، وبالتالي لا عزاء للفقراء في هذا العالم المتوحش!

العدد 1105 - 01/5/2024