من الصحافة العربية العدد 662

عٍبَر من (موسكو 1)

 

صحيحٌ أنّ لقاء موسكو التشاوري بين ممثّل الحكومة السوريّة والمعارضات، كما سُمّيت، قد انتهى إلى تصريحات إعلاميّة حول ورقة مبادئ. لكنّ اللافت أنّ الحكومة السوريّة تتحدّث عن ورقة من ثماني نقاط وأحياناً من عشر، والوسيط الروسيّ تحدّث في مؤتمره الصحافي عن ورقة مبادئ من إحدى عشرة نقطة، ثمّ أرسل رسالة إلى الحاضرين يقول إنّ هذه الورقة هي نصّ معمّم، لا ينطوي على طابع إلزاميّ، ولا يلزم أحداً بأيّ شيء، وهي قابلة للنقد والتعديل، وتنبغي دراستها للخروج منها بمشروع. في حين أشار كثيرٌ من المعارضين الحاضرين، ومن بينهم أناسٌ يقطنون في ظلّ السلطة السوريّة، أنّ هذا النصّ لم يناقش أصلاً، وأنّهم طلبوا تعديله فور توزيعه. بالتالي، تكفي الإشارة إلى الخلاف بين الفرقاء كافة حول عدد البنود (مبادئ موسكو)، للدلالة على أنّ هذا الإعلان هو (لا ورقة)، كما يُقال في العرف الديبلوماسي.

واضحٌ إذاً أنّ الحكومة السوريّة هي التي دفعت بهذه الورقة إلى طاولة التشاور. وهذا حقّها، إلاّ أنّ ما ليس مفهوماً هو لماذا تريد الحكومة السوريّة القفز في أوّل لقاء تشاوريّ إلى التفاوض حولها، بينما يتطلّب الأمر جهداً كبيراً كي يصبح نصّها مقبولاً للجميع. علماً أنّها تقول هي أيضاً إنّ التفاوض ليس في موسكو.

بالتالي، ليست ورقة (المبادئ) سوى ورقة خلفيّة اقترحتها الحكومة السوريّة كمرجعيّة، وضعُها بالضبط مثل ورقة (بيان جنيف 1) التي تمّ أيضاً تعميمها على الحاضرين، أو (بيان القاهرة) الذي وضعته بعض الأطراف السياسيّة على طاولة الحوار، أو (وثائق القاهرة) التي كانت قد أقرّتها أطياف المعارضة كافّة في تموز ،2012 والتي عمّمتها بيديّ. وإذا كان الأمر تفاوضاً، فلماذا يتمّ على أساس هذه الوثيقة من دون غيرها؟

تأخذ هذه الملاحظات إلى محاولة فهم طبيعة لقاء موسكو التشاوريّ واستراتيجيّات الأطراف الحاضرة. لقاء موسكو التشاوريّ ليس تفاوضاً ولكنه سبيل إلى التفاوض، تطرح من خلاله نقاط الخلاف ويصار إلى توضيحها وإيجاد سبل لتفكيكها، كي يتمّ حلّها في ما بعد في مرحلة التفاوض الحقيقيّة. وهناك نقاط خلاف كثيرة وعلى الأصعدة كافّة، السياسيّة كما الإنسانيّة والميدانيّة. وما يقدّم من أوراق خلال اللقاء هي أوراق مرجعيّة تضعها الأطراف على طاولة الحوار، فقط لا غير. والوسيط في الحوار يسرد في نهاية اللقاء ما الذي تمّ طرحه من أوراق ونقاط مهمّة، كما نقاط الاختلاف ونقاط التوافق بالإجماع.

في موسكو اختلفت الطروحات حسب المشاركين، وأظهرت (عمق المشاكل التي أخرجها الصراع وأنتجتها الحرب)، كما عبّر عن ذلك أحد الموجودين. أغلب مَن أتى مِن دمشق، حتّى لو قالت بعض أطياف المعارضة إنّهم ليسوا معارضين، كان يبحث أوّلاً في الشقّ الإنسانيّ، بما فيها داخلياً حصار المدن والقصف ومعتقلو الرأي والأسرى والمخطوفون، وخارجيّاً ضرورة فكّ العقوبات الاقتصادية العامّة المفروضة على البلاد التي ترهق أوّلاً وأخيراً المواطنين قبل السلطة. وهذا منطقيّ. أمّا أعضاء حزب (الاتحاد الديموقراطي) والإدارة الذاتية، فقد طرحوا أيضاً مشاكلهم الخاصّة المتعلّقة بوحدات الحماية الشعبية التي انتصرت لتوّها على (داعش) في معركة كوباني/ عين العرب، وكذلك بالإدارة الذاتيّة في بعض المناطق. بدورهم كان ممثّلو العشائر السوريّة، وعددهم كان ملحوظاً، يعلنون موقفهم الحياديّ من جميع الأطراف في الصراع، حتّى تجاه (داعش) الإرهابيّة. هذا إلاّ إذا تمّ تسليحهم بشكلٍ جيّد وضمن توافقٍ وطنيّ يؤسّس لتوحيد الجهود في الحرب على الإرهاب. وهذا ليس فقط منطقيّاً، بل أيضاً محوريّ، بما أنّ (داعش) توجد أصلاً في منطقة ذات صبغة عشائريّة. من طرفهم، كان أعضاء (هيئة التنسيق الوطنيّة) وحلفاؤهم يدافعون عن (بيان القاهرة) كأساسٍ للتفاوض بمرجعيّة (جنيف 1) وعن القضايا الإنسانيّة.

بالتالي يُمكن القول إنّ أغلب الحاضرين كانوا يطرحون ويفاوضون حول قضايا معيّنة. إلاّ أنّ ما كان أكثر عقلانيّة هو أن تطرح مواضيع الخلاف وحدها وآليّات معالجتها والوساطة اللازمة لذلك، والانطلاق من تحديدها كي يتمّ اقتراح جدول أعمال للقاءات المقبلة حول كلّ موضوع، ونوعية المشاركين الضروريين. هل هم سياسيّون أم تقنيّون أم ممثلو مجتمع مدني أم للمعارضة المسلّحة والجيش السوريّ؟ وعلى سبيل المثال، هل يعالج السياسيّون موضوع المعتقلين السياسيين أم جمعيّات توثيق الانتهاكات أم مسؤولو وزارة الداخليّة وأجهزة الأمن؟ وهذا ما كنت قد اقترحته في رسالة إلى الحكومة الروسيّة، وزّعت على الحاضرين ولم يعترض عليها ممثّل الحكومة السوريّة في بداية اللقاء.

وهنا لا بدّ من الإصرار على أنّ الصراع في سورية وكذلك سبل الحلّ السوري – السوريّ يكمنون على مستويات ثلاثة مختلفة، وإن كان بينها بعض الترابط: السياسي والإنسانيّ والميدانيّ. وأنّ الأساس هو وقف الحرب، أي ما هو ميدانيّ، كي تعود السياسة وكي تتولّد إمكانيّة توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب، الذي بات يشكّل خطراً على وجود البلاد وليس فقط مستقبلها. أمّا التقدّم من خلال التوافق على ورقة سياسيّة عامّة، فلن يأتي بفائدة إلى أيّ طرف، بل إلى عزل المعارضة المسلّحة أكثر عن السياسة وعن التنظيمات والشخصيّات السياسيّة، خاصّة المعتدلة منها، وبالتالي استمرار الحرب، خصوصاً أنّ الآراء شديدة التباين على الصعيد السياسيّ حول تعريف الإرهاب والمسؤوليّة عن الأزمة ورؤية سورية المستقبل. ما يجب أن يتمّ خلقه إذاً هو أطر للتحاور ومن ثمّ للتفاوض على المستويات الثلاثة.

برغم كلّ هذا، ما الذي خرج به حقّاً لقاء موسكو الأوّل بتوافق جميع الحاضرين؟ أوّلاً الاستمرار في اللقاءات التشاوريّة، وأنّ اللقاء المقبل سيكون في غضون شهر، في موسكو أيضاً وليس في أيّ مكانٍ آخر، لا دمشق ولا غيرها. وثانياً وكما عرضه الوسيط الروسي فيتالي نعومكين ووزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف، أنّ التشاور الذي يؤسّس لحلّ سياسيّ سيجري على الأصعدة الثلاثة، وأنّ على الأطراف اقتراح الأصعدة التي يمكن العمل والتقدّم بخلق آليّات لها في اللقاءات المقبلة، أي التوافق على جدول الأعمال، وأخيراً أنّ لقاءات موسكو يجب أن تكون أكثر شموليّة ليس فقط في ما يخصّ بقيّة أطراف المعارضة السياسيّة، وإنّما أيضاً المجتمع المدنيّ والمنظّمات الأهليّة، وكذلك من يمثّل الأطراف المقاتلة المتمسّكة بدولة المساواة في المواطنة على الأرض بغية التوصّل لوقف الحرب وتوحيد الجهود لمكافحة الإرهاب. وتمّ تثبيت دور معهد الاستشراق والحكومة الروسية كوسيط بين الطرفين لطرح المواضيع الخلافيّة، على أن تجيب الحكومة السوريّة الوسيط حول هذه المواضيع. وجاءت بعض قوائم المعتقلين السياسيين والمغيّبين كمثالٍ في هذا السياق، إذ سلّمت رسميّاً قوائم عن أربع مدن، على أن تُستكمل. وتخصّ إحدى القوائم مدينة المعضميّة في ريف دمشق التي توشك الهدنة/ المصالحة، لنسمّها ما شئنا، على الانهيار لأنّ المعتقلين الذين تمّ التوافق على إطلاق سراحهم ميدانيّاً لم يشهدوا الحريّة بعد.

بالتالي، ما تمّ فعلاً التوافق عليه في (موسكو 1) هو فقط بعض الآليّات للاستمرار. وهذا بحدّ ذاته يُمكن أن يعتبر نتيجة إيجابيّة مقارنة مع لقاءات مونترو التفاوضيّة في سويسرا. إذ أنّ (جنيف 2) هذا تميّز بأنّ الطرفين تحاورا كلٌّ منهما مع وسائل إعلامه أكثر من التحاور بين بعضهم البعض، على عكس موسكو. وفد الحكومة السوريّة ووفد المعارضة، مهما كان الخلاف حول هذه التسميات، جلسا إلى طاولة واحدة وطرحا وجهات نظرهما بشكلٍ طبيعيّ نوعاً ما، مهما كانت حدّة الخلاف وتباعد وجهات النظر.

لم يربح أحدٌ في جولة (موسكو 1). والجهد المطلوب ما زال كبيراً لإخراج بلدنا من أزمة وجود مصيريّة معقّدة، تخصّ الإنسان كما الوطن. وهذا الجهد يجب أن يُبذل، حتّى ولو كانت حظوظ الفرصة ما تزال محدودة.

سمير العيطة

(السفير7/2/2015)

العدد 1105 - 01/5/2024