قول في طوفان التطرف

التطرف بقضاياه الشائكة وتداعياته الكارثية أدى إلى مشاكل كبيرة تواجه الباحثين فيه، أولى هذه المشاكل تتعلق بتحديد المصطلح. فإذا كان التطرف لغة يعني إمساك الشيء من طرفه، أو إتيان الشيء من طرفه، فإن تعريف التطرف اصطلاحاً يصبح أكثر تعقيداً.. ذلك أنه في العلوم الاجتماعية ليس ثمة اتفاق على تحديد نقطة الوسط أو المنتصف، حتى يصبح الاتفاق على معنى التطرف أمراً ممكناً. فهي نقطة متغيرة في المكان. بمعنى أن ما هو متطرف في مجتمع، لا يبدو كذلك في مجتمع آخر، وهي أيضاً نقطة متغيرة في الزمان.. بمعنى أن ما يبدو تطرفاً اليوم، قد لا يصبح تطرفاً في المستقبل. ولكن من المُسلّم به لدى غالبية الباحثين، أو بالأحرى جميعهم، أن التطرف، بصيغته ظاهرة اجتماعية مركبة، ينظر إليها على أنها (خروج عن النسق العام لمنظومة القيم وعلى كل المُثل والمبادئ والأفكار الشائعة والرائجة والمتفق عليها بين الناس كافة).

وبشكل عام، في هذه الأوقات، لم تعد منظومة القيم والمبادئ محلية محضة، أي نابعة من موروث الأمة أو الدولة والمجتمع فحسب، بل باتت لها مرجعيات أممية توافقت حولها وعليها البشرية بأكملها، وسطرتها في جملة من المواثيق والمعاهدات الدولية.. فعلى سبيل المثال:

– يكفي أن ينسب إنسان ما إلى نفسه ومرجعيته الاعتقادية الحقيقة المطلقة والأخلاق الحميدة ويحجبهما عن الآخرين، حتى يصبح متطرفاً، هذا في الحدود الفردية بشكل عام.

– ويكفي أن يعمل إنسان على الانتقاص من إنسانية (الآخر)، أو يستكثر عليه حقوقه الأساسية، لأنه يختلف معه في الجنس أو العقيدة أو المذهب أو الدين أو القومية أو اللسان، حتى يصبح متطرفاً.

– ثم إن التطرف عادة يأتي متبوعاً بما يوضحه مثل (الغلوّ)، والغلو هو التجاوز الأبعد إلى حدي الإفراط أو التفريط، وفي أحيان كثيرة يتبع التطرف أو تترتب عليه انحرافات سلوكية وارتكاب جرائم مختلفة مثل القتل والخطف والاغتصاب، مع التفنن بعمليات القتل والاغتيال على غرار ما تفعل داعش (قطع الرأس والأعضاء، الحرق، الخنق، إلخ)، وهنا ينتقل المتطرف من فضاء الفكر والاعتقاد إلى حضيض الدونية والممارسة اللاأخلاقية واللاقانونية واللاإنسانية، وهذا كما أشرنا ما ينطلق على إرهابيي (داعش) و(النصرة) وما لف لفهما من منظمات إرهابية تعمل في سورية والعراق وليبيا ومصر وغيرها من الدول العربية وحتى في الدول الأجنبية مثل نيجيريا، إذ ترتكب منظمة بوكو حرام أبشع أنواع جرائم القتل والخطف والاغتصاب وغير ذلك من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وهذا هو الإرهاب بعينه.

لاشك بأن التطرف والإرهاب حالتان متلازمتان، ويعنيان الانتقال من دائرة الاعتقاد إلى دائرة السلوك الإجرامي الذي أشرنا إلى بعض أساليبه وتداعياته المرعبة، مع العلم بأن التطرف عندما يبقى في دائرة الفكر والمعتقد، يمكن أن تُستخدم في معالجته وسائل فكرية وثقافية وتربوية، إذ إن الفكر لا يُدحض إلا بالفكر، والمعركة مع  التطرف هي ذاتها المعركة على عقول الناس وقلوبهم. وهنا تشتد الحاجة لتفعيل جبهات الثقافة والإعلام والفنون وفضاءات التواصل الاجتماعي لمواجهة ظاهرتي الإرهاب والتطرف، أما عندما ينتقل التطرف من ميدان الفكر والاعتقاد إلى ميدان السلوك المنحرف وارتكاب الجرائم، فلا بديل عن المعالجات الأمنية، لفرض سيادة القانون وحفظ حقوق المواطنين وحمايتهم، وبالتالي تكريس سيادة الدولة وسلطتها، وهذه المعالجات الأمنية لا تعني أن تؤجل أو تلغى المعالجات الفكرية والأيديولوجية التي تبدأ بالبيت والمدرسة والجامعات والمعاهد وفضاءات الإعلام والثقافة والفنون ومنظومات الدولة بشكل عام، سواء منها المنظومات التشريعية أو المؤسسية.

إلى جانب ذلك، فإن التطرف كظاهرة اجتماعية لا يمكن رده لسبب واحد أو أكثر مثل الفقر والبطالة وفقدان العدالة الاجتماعية، بل هو ظاهرة تتضافر في تشكيلها جملة عوامل ثقافية ودينية واجتماعية، وخاصة الفتاوى المضللة والتكفير للآخرين عبر التنكر لمعتقداتهم الدينية، ثم  عوامل سياسية خارجية تغذي هذه الظاهرة لشقّ المجتمعات.

وعلى سبيل المثال تأتي سلطنة عمان في آخر قائمة الدولة الخليجية من حيث معدلات دخل الفرد، إلا أنها لم تكن بؤرة لتصدير الإرهابيين مثل قطر والسعودية والكويت، هذا مع العلم بأن أخطر منابع التطرف والإرهاب تكمن في العوامل السياسية  الخارجية التي تغذي ذلك، وفي إطلاق فتاوي التفكير وفي مؤسسات التربية والتعليم، إذ تؤدي المناهج والطرق التربوية المتبعة في بعض الدول إلى تخريج أجيال شابة مشبعة بثقافة التعصب الديني والمذهبي وعدم الاعتراف بالآخر وتكفيره، خاصة عندما يترافق ذلك مع شيوع الخطابات المتشددة وانتشارها، وكذلك الأفكار الغيبية القائمة على الخرافات والأساطير وثقافة كراهية الآخر، وحتى محاولة إلغائه على مسرح الحياة.

باختصار.. إن الإرهاب الذي يضرب المنطقة العربية، وخاصة سورية والعراق وليبيا ومصر، والذي هو من تداعيات التطرف الذي رعته وشجعته جهات أجنبية، في طليعته أمريكا وحلفاؤها، ومولته دول النفط العربي يحتاج إلى علاج متعدد الأوجه: أمنياً مع وقف موارد تمويله، وفكرياً وتربوياً بوسائل ثقافية وإعلامية واجتماعية تتصدى لكل محاولات التكفير والتحريض عبر التركيز على مبادئ التسامح والعيش المشترك والاعتراف بالآخر، وذلك كله من أجل تحصين الأجيال من سطوة هذا الإرهاب وطوفانه الذي يجتاح المنطقة ويهدد العالم أجمع.

العدد 1107 - 22/5/2024