المواطن السوري وقدرته الخارقة في مواجهة الأزمات

منذ بداية الأزمة السورية فقدَ الكثير من السوريين أعمالهم ووظائفهم، وارتفعت الأسعار، فقلّ الدخل وزاد المصروف.. فكيف استطاع المواطن السوري، خاصة من ذوي الدخل المحدود، تدبّر أمور معيشته، ودخله المتواضع عاجز عن تأمين متطلبات الحياة؟ وما هي الأشياء التي اضطر للاستغناء عنها؟ بل وعدّها من الكماليات رغم أنها كانت دائماً من الضروريات؟

فإذا كانت الأرقام تشير إلى أن ما يقارب خمسة ملايين مواطن سوري باتوا تحت خط الفقر بسبب الأحداث التي تشهدها سورية، فضلاً عن مليوني عاطل عن العمل، و800 ألف منزل مهدم حسب توقعات نائب رئيس الوزراء السابق للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري، فكيف هو وقعها على أرض الواقع؟

خمسة ملايين سوري أصبحوا تحت خط الفقر، صُنّفوا اعتماداً على أساس عدم حصول هذه النسبة من المواطنين السوريين على معدل دولارين يومياً لضمان حاجاتهم الأساسية من الغذاء، ما ينذر بكارثة إنسانية قد تكون الأسوأ على الإطلاق.

كما أن قلة الموارد قد أدت إلى نقص في تلبية الاحتياجات الأساسية، بل وانعدامها، في المناطق المحاصرة، وكان لذلك أثره على الصحة العامة، واتساع حالات سوء التغذية. وتشير الدراسات إلى إن أكثر الشرائح تأثراً بسوء التغذية هم الرضع دون الثانية والأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، نتيجة عدم الحصول على القدر المناسب من المغذيات الأساسية كالبروتين، والسعرات الحرارية، و(الفيتامينات والمعادن)، فيضعف الجسم وتكثر الإصابة بالعدوى والأمراض. وتربط الدراسات بين حدوث حالات الإعاقة العقلية البسيطة وسوء التغذية خاصة في المناطق الفقيرة أو التي تعاني الحروب والكوارث.. فمثلاً عدم توازن المواد الغذائية عند المرأة الحامل سيحرم الجنين من التغذية اللازمة لنموه نمواً سليماً، وقد ينتج عنه تخلف عقلي في مراحل متقدمة.

هناء وعلاء موظفان في القطاع العام (خريجا هندسة ميكانيك)، يصل مجموع راتبيهما إلى 60 ألف ليرة سورية شهرياً.. تقول هناء (وهي المسؤولة عن تنظيم مصروف الأسرة) بأن الأولوية هي للأساسيات فقط (لقد استغنينا عن الرفاهية، فالدخل مخصص للاحتياجات الرئيسية، خصوصاً أن لدينا طالب بكالوريا ويحتاج إلى الدروس الخصوصية التي تصل كلفتها إلى عشرة آلاف ليرة شهرياً، وطالبة جامعية يصل مصروفها الشهري إلى ثمانية آلاف تقريباً).

أبو أحمد، سائق تكسي يصل مصروف أسرته إلى 25 ألف ليرة شهرياً، ويدفع أجرة سيارته التي يعمل عليها 20 ألف ليرة شهرياً، يقطن في منزل للعائلة في منطقة قدسيا، أي ليس مطلوباً منه إيجار منزل، يقول: (الفواكه بالنسبة إلنا صارت من الكماليات، نشتري كيلو من اللحم مرة واحدة خلال الشهر، وفي إحدى المرات اشترينا عظام الدجاج وطبخنا ملوخية.. عندي ثلاثة أولاد بالمدرسة (يا دوب عم لحق).

فادي، موظف في أحد الأفران الحكومية، راتبه الشهري 20 ألف ليرة سورية وزوجته ربة منزل، يضاف إلى دخله إيجار منزل يملكه يبلغ 12 ألف ليرة، المصروف هو لتأمين الاحتياجات الأساسية، ولا يكفي دخله لتأمين كل احتياجاته، فمثلاً اضطر لبيع هاتفه الجوال، الذي كان هدية من أخته المقيمة في الخليج، ليتمكن من شراء مدفأة تعمل على الغاز، خصوصاً أنه غير قادر على تأمين المازوت الكافي للتدفئة.

أبو أيهم، موظف راتبه 15 ألف ليرة شهرياً، ويعمل على سوزوكي خارج أوقات الدوام، فيضيف إلى دخله ما يقارب 10 آلاف ليرة سورية، يدفع إيجار منزله الذي نزح إليه من داريا في منطقة المزة 20 ألف ليرة. يقول أبو أيهم: (أكتر شي صعب وقت بفوت عالبيت وبيطلب ولد من الأولاد شي طلب وما بقدر جبلن ياه.. أنا الأكل عمّ أمّنه بصعوبة وبصراحة عم اعتمد عالمعونات إلي ساندتني أكتر شي).

زين الدين، موظف سابق في الزراعة ومتقاعد حالياً، راتبه التقاعدي 26 ألف ليرة شهرياً، ورغم أن بناته متزوجات، ولم يبق في المنزل سوى 3 أولاد جامعيين، إلا أن هذا الراتب التقاعدي لا يكفيه (فواتير كهرباء، مياه، هاتف، مازوت) ولا سبيل لعمل إضافي.

ريم مهندسة زراعية، وخالد مدرس في المدرسة الابتدائية، لديهما ولد في الصف الرابع وطفلة تبلغ من العمر سنتان، في ظل هذه الأزمة استغنت ريم عن كل متطلبات أناقتها، لقاء توفير الطعام لأولادها، بل وأصبحت تعتمد على البالة في شراء الملابس لها ولأفراد أسرتها، (واللحم كان ما ينقطع من برادنا، صرنا ناكلو بالمناسبات، ولغينا كل الواجبات الاجتماعية المكلفة من زيارات وجمعات للأصدقاء والأقرباء.. صار اهتمامنا بالضروريات فقط.. كل شي تضاعف سعره حتى مصروف ابني بالمدرسة زاد وما بقى تكفيه 25 ليرة، لأنو ما بتجبلو شي).

أم حاتم، ربة منزل، نزحت من مخيم اليرموك إلى منطقة المزة، تعتمد في المصروف على ما يأتيها من أقربائها في الخارج: (ندفع إيجار المنزل 40 ألف ليرة، بعد أن كنا ندفع في المخيم 15 ألف ليرة سورية، وقد تمر علينا أيام لا يتوفر لدينا ولا ليرة في البيت، خليها لله). ووفقاً للإحصاءات الرسمية، تحديداً المكتب المركزي للإحصاء، فإن متوسط إنفاق الأسرة الشهري في عام 2009وصل إلى 30 ألف ليرة، منها 14 ألف ليرة تقريباً للغذاء، ولم نستطع الحصول على أية إحصاءات رسمية للأعوام 2011 و2012 و2013.

الأزمة السورية كشفت عن أزمات قديمة وخلقت أزمات جديدة، من ارتفاع جنوني في الأسعار وفي إيجار البيوت والمواصلات. وحل بعض من هذه الأزمات يكون بضبط الأسعار ومراقبتها، أو زيادة في الرواتب، رغم أن هذه الزيادة تنبئ بكارثة عند المواطن السوري، لأنها تعني قفزات خيالية في الأسعار.. وإن كان الموظف قد يعتبر مستفيداً من هذه الزيادة، إلا أن أصحاب المهن الحرة والمياومين هم أكثر المتضررين، وهذا يؤكد أن الحل هو في ضبط السوق ومراقبته، وفي إيجاد سبل أخرى لدعم المواطن.

تدبير المواطن السوري لأموره المعيشية حالة تشبه المعجزات، صموده وقدرته على الاستمرار في الحياة رغم كل هذه الضغوط، فاق ربما صبر أيوب، لكن إلى متى ستستمر هذه القدرة الخارقة؟!

العدد 1105 - 01/5/2024