المهجرون.. الإيجار ورحلة العذاب!

أحد أهم فصول الأزمة وتداعياتها على المواطن والحكومة.. كان النزوح الكبير للمهجرين من المناطق الساخنة إلى المناطق الأكثر أمناً، فقد حمّل الحكومة أعباء إضافية تتعلق بتأمين مراكز الإيواء وغيرها من الأعباء (مدارس- مواصلات- مواد تموينية). كما عكست الأزمة تغيرات بنيوية في الشكل الديمغرافي للسكان في المناطق الأكثر اكتظاظاً.

لقد اتسمت حركة النزوح باستمراريتها وتدفقها، ودخول مناطق جديدة آمنة في دائرة العنف، مما أدى لتهجير السكان مرة ثانية وثالثة.. كل هذا وضع المواطن أمام عملية استغلال ومعاناة مؤلمة تلخصت في الحصول على مسكن يأويه ولو بمواصفات متدنية حقيقية. من خلال عدة لقاءات مع العديد من المواطنين الذين أبدوا استياءهم من الوضع الذي آلت إليه أوضاعهم الكارثية، بسبب دخول المجموعات المسلحة إلى مناطقهم الآمنة، وتقصير بعض الجهات الحكومية في تدارك معاناتهم أو التخفيف منها.

نأخذ مدينة عدرا العمالية مثالاً.. يسكن هذه المدينة قرابة 200 مئتي ألف نسمة حسب بعض التقديرات.. أكثر من نصف سكان المدينة من الغوطة الشرقية (دوما- عربين- حرستا.. إلخ) وهؤلاء بعضهم هجروا للمرة الثانية أو الثالثة.. أمنت الدولة لجميع السكان الموجودين، وهم بالمناسبة جميعهم كادحون.. الظروف المقبولة وحسب الإمكانيات، من حيث السكن والكهرباء والماء والخبز وغيرها من مستلزمات الحياة..

وعند دخول المسلحين للمدينة.. خرج قسم لا بأس به من السكان، لكن فرض عليهم الخروج مشياً على الأقدام، وترك منازلهم بما فيها من مستلزمات الحياة.

مطلوب من المجموعات المسلحة الدخول للمناطق الآمنة، وتشريد السكان وزيادة أعباء الدولة، لتكفلها بمتطلبات النازحين والمشردين.. ثم ماذا يعني عدم السماح بخروج المدنيين، وسد الطرقات بالأتربة مما يؤدي إلى عدم إمكانية استخدام السيارات العائدة للمدنيين لنقل حوائجهم؟! ومن خرج.. خرج مشياً على الأقدام أكثر من خمسة كيلو مترات للوصول إلى أقرب نقطة للجيش العربي السوري.. ثم تبدأ المجموعات المسلحة بنهب ممتلكات المواطنين..

الاستثمار العقاري للبيوت

خفت لدرجة كبيرة عمليات البيع والشراء خلال سنوات الأزمة، حتى كادت لا تذكر.. نسبة هبوط بالبيع والشراء أكثر من 90%.

وارتفعت أسعار البيوت في المناطق الآمنة خاصة في العاصمة مع ارتفاع سعر الإيجار حتى خمسة أضعاف. السكن الواحد تسكنه عدة عائلات ويتم التوزيع على سكان المنزل الواحد.. ونستطيع إيراد أمثلة حقيقية للإيجارات وفق مايلي:

– صالون+ غرفة في ركن الدين (كيكية) قبو (مساحة50م) إيجار 30 ألف ليرة.

– شقة متواضعة دون فرش (قدسيا) بين 35-40 ألف ليرة سورية.

– شقة مفروشة في ساحة شمدين 75 ألف ليرة سورية.

– شقة في المزة 100 ألف ليرة سورية.

– حتى أماكن الطيور على الأسطح حولت لغرفة مع تواليت وتم تأجيرها..

بالمختصر لن تجد غرفة إيجارها أقل من عشرة آلاف ليرة، مع تدنٍّ كبير بمواصفات السكن.

أصحاب العقارات تمترسوا واستغلوا حاجة المواطن فلا يكتبون عقداً أكثر من ستة أشهر مدفوعة سلفاً مع تأمين كهرباء وماء.. لإعادة رفع الإيجار مرة أخرى في نهاية العقد.. وزاد الطين بلة اشتراط صاحب العقار عدم استضافة المستأجر أي قريب، وذكر الأشخاص الراغبين بالسكن في محضر التعريف مع موافقة صاحب المنزل المؤجر.. وأيضاً استحالة السكن في بعض المناطق بسبب عدم الموافقة من الجهات الوصائية، مما سبب الضغط السكني على مناطق أخرى هي بالأساس ذات كثافة سكانية.

المواطن وضع أمام حالتين أحلاهما مر.. فهو يعيش رعباً حقيقياً مع قرب انتهاء مدة عقد الإيجار، والخوف من الرفع مجدداً، أو اضطراره للقبول بالأمر الواقع أو إلى الشارع أو التوجه إلى مراكز الإيواء، والقبول بها مع كل الشروط المتوفرة التي لا يرغبها.. حسب بعض المعلومات أن الدولة أنشأت أكثر من ألفي مركز إيواء على مستوى القطر، وهذا لاشك عبء كبير على كاهلها.. ولكن لا يفي ذلك بالغرض.. أيضاً طرحت مشكلات هائلة لاستيعاب التلاميذ في المدارس بسبب شغل مراكز إيواء الكثير من المدارس.

من كل ما سبق نطرح  التساؤل التالي:

– ماهي قدرة الدولة في حماية المواطن المستأجر قانونياً.. من الاستغلال والجشع؟ الجهات المسؤولة تعلم علم اليقين كيفية التلاعب بعقود الإيجار ورضوخ ا لمستأجر للشروط وضياع مئات الملايين على خزينة الدولة.. فالعقد هو شريعة المتعاقدين حسب نصوص القانون رقم 6 لعام ،2001 الناظم لعملية الإيجار السكني.. وينطبق ذلك على القانون رقم 10 الناظم للأعمال التجارية والصناعية، فقد حدد القانون 5% من الأجر المسمى في العقد كضريبة وحدد الحد الأدنى 500 ليرة، وهذا شجع طرفي العقد على التهرب الضريبي، ما حرم خزينة الدولة من إيراد كبير.

بشكل عام لا يوجد في سورية مؤسسات إيجار، فالمواطن كان يسعى لشراء مسكن بشكل عام، فالقضية تتلخص في كثافة المهجرين الذين يتوزعون على خريطة عقارية واحدة آمنة أو أكثر في العاصمة.. سببها الأمان أيضاً. القضية انعكست في مناطق ريف دمشق المتوترة وقد نشط تجار الأزمات في شراء البيوت والأراضي مستغلين ضعف القدرة المادية للمواطن وعدم الاستقرار.

لقد تراجعت عمليات البيع والشراء في المناطق الآمنة لصالح عمليات الإيجار التي ارتفع ريعها، في البداية رفض تجار العقارات فكرة التأجير ثم قبلوا بها.. لقد ازدادت حركة النزوح مع ازدياد العمليات الأمنية ودخول المجموعات المسلحة لمناطق جديدة.

هناك إحصائيات غير دقيقة لأعداد المهجرين من الريف للمدينة.. بعضها يتكلم عن زيادة سكان مدينة دمشق بأكثر من 50% مقارنة مع ما قبل الأزمة.. ونعتقد بأن أكثر من ثلثي المهجرين من ريف دمشق لجؤوا إلى مناطق في ريف دمشق أكثر أمناً، لأنها أقل كلفة مادية.. والباقي إلى المدينة وهم الأكثر قدرة مادياً نسبياً.. ولعب في ذلك توافر سبل العيش والعمل.. أيضاً مازال في غوطة دمشق الشرقية نحو مليون نسمة (دوما- عربين- حرستا- حمورية- مسرابا- شيفونية- سقبا.. إلخ) وهؤلاء لا يدفعون إيجار منازل لكن أسعار الغذائيات التي تصل إليهم بالقطارة بلغت أرقاماً فلكية.. وقسم كبير من هؤلاء مهجرون من مناطق أكثر توتراً إلى مناطق أقل خطراً.. وهذه المناطق خارج سيطرة الدولة، مما يزيد من أعباء المواطن العادي: خبز الشعير إذا توفر.. الربطة600-700 ل.س وفي ظل عدم توافر كل مستلزمات الحياة من (غذاء- تدفئة- كهرباء- ماء.. مواصلات) سعر ليتر المازوت 1300 ل.س وسعر ليتر البنزين ،3500 وطبعاً لا ننسى عدم توافر أي شيء له علاقة بالدواء والصحة والتعليم.

خاتمة

من خلال عرضنا السابق.. أدرك المواطن بحسه العفوي البسيط كم هو ضروري دور الدولة في حياة المواطن ومستقبله.. فالسعي نحو إعادة دور الدولة الخدمي والصحي والاجتماعي إلى مناطق التوتر ضروري ومن الدرجة الأولى.. ويجب العمل والدفع باتجاه تكريس المصالحات والمسامحات.. والبحث عن النجاحات في بعض المناطق وتكريسها في مناطق أخرى، كل ذلك يستدعي إجراءات حكومية سريعة وفاعلة، فوقف العنف وإراقة الدماء وعودة المهجرين كل ذلك أولويات ضرورية وهامة لعودة الاستقرار الاجتماعي والتأهيل لمرحلة بعد الأزمة.

للتذكير لقد احتلت مدينة اللاذقية نسبة أكبر نزوح إليها بمعدل 5,1 مليون نسمة من مدن حلب وريفها والرقة وحمص ودير الزور، ثم تأتي طرطوس بالمرتبة الثانية (مليون نسمة) أخيراً مدينة السويداء 750 ألفاً.

العدد 1105 - 01/5/2024