ظواهر دمشقية في زمن الأزمة

ثلاثة أعوام من حرب لم تنته، أثقلت البلاد بالمآسي والدمار والموت، وأفرزت ظواهر جديدة تعايش معها الشارع السوري. البعض منها معقد يصعب إيجاد حل له، لكن البعض الآخر قد لا يخلو من الطرافة. ووجد المواطن السوري -والدمشقي خاصة- سبلاً عديدة للتعامل مع بعض أزماته، وتعامل بصبر وبروح النكتة في أحيان أخرى.

الأرصفة للسيارات وليست للمارة!

لأن ركوب السيارة أصبح ترفاً في هذه المدينة المثقلة بالتعب، آثر بعض مالكيها أن يركنوها إلى الرصيف بدلاً من استخدامها، وقد أدرك بعضهم أن من متطلبات المرحلة الراهنة أن ينضم إلى الطبقة الكادحة ويقاسمهم الميكرو باصات، وفضّل بعضهم أن يمارس رياضة المشي، ففي الرياضة حياة.

وإن كان ذلك قد أثار حفيظة المارة الذين أصبحوا يسيرون في الأماكن التي كانت مسبقاً مخصصة للسيارات بدلاً من الأرصفة التي كانت مخصصة لهم، إلا أن هناك أسباباً فعلية دعت مالكي السيارات إلى هجر سياراتهم والانضمام إلى ركب المشائين، أو التوجه إلى وسائل النقل العامة، منها غلاء البنزين والازدحام على محطات الوقود للحصول عليه، وقلة الطرق المستخدمة في العاصمة نتيجة إغلاق معظم الطرقات لأسباب أمنية، وتوجه كل وسائل النقل إلى المتاح منها، إضافة إلى الحواجز التي قطعت أوصال المدينة.

يقول خالد: (لقد ركنت سيارتي أمام البيت وفضلت الذهاب إلى عملي بباص الموظفين، نظراً لأن الوقت المستغرق هو نفسه في الحالتين من جهة، ولصعوبة الحصول على البنزين في هذه الأيام من جهة أخرى).

قلة الشوارع والطرق المتاحة

أُغلقت معظم الشوارع في العاصمة دمشق وما بقي متاحاً منها لا يعادل 25% فقط من الشوارع، وإن كان ذلك لأسباب أمنية، فإنه قد خلق أزمات جديدة تضاف إلى سجل أزمات المواطن السوري. فتجد الازدحام الخانق يسيطر على الطرقات، وفي أوقات الذروة قد تنتظر عدة ساعات للوصول إلى وجهتك وستجد أرتالاً من السيارات تحاول عبور الطريق، ستفضل النزول من الميكروباص وإكمال طريقك سيراً على الأقدام، لأن ذلك سيوفر عليك الانتظار الطويل.

أبو شادي، سائق تكسي، يقول: ليس من المعقول إغلاق هذا العدد الكبير من الشوارع الرئيسية والفرعية في دمشق، لقد أدى ذلك إلى ازدحام خانق في الشوارع المتبقية. لقد كنت سابقاً أوصل نحو ثلاثين طلباً خلال النهار، أما اليوم ففي أفضل الأحوال أتمكن من الحصول على خمسة عشر طلباً.

غلاء البنزين

في عام 2013 اتخذت الحكومة السورية قراراً برفع أسعار المشتقات النفطية، وذلك بهدف زيادة موارد الدولة، لأن الإيرادات أصبحت قليلة نسبياً ومن مختلف القطاعات الاقتصادية، فكان لا بد من إيجاد موارد بديلة -وفقاً لوزير النفط – ليتر البنزين الذي كان يباع بسعر 40 ليرة لليتر، أصبح سعره 100 ليرة سورية، أما المازوت الذي كان سعر الليتر منه 20 ليرة سورية فيباع الآن بـ60 ليرة لليتر.

هذا الأمر زاد من معاناة المواطنين، فقد ترافق مع زيادة بأسعار جميع المواد الاستهلاكية وضاعف من هموم السوريين.. وأصبحت تجد طوابير من الناس في انتظار الحصول على البنزين من محطات الوقود رغم ارتفاع سعره لصعوبة توفره أيضاً، فاستغنى الكثير من الناس عن سياراتهم الخاصة واتجهوا إلى وسائل النقل العامة.

حواجز لأسباب أمنية

انتشرت الحواجز في مختلف الشوارع الدمشقية، تفتيش، تدقيق في الهويات وساعات من الانتظار، حتى يومئ العسكري آذناً لك بالمرور. بعضهم يقوم بالمهمة على أكمل وجه، لكن بعضهم يوقفونك ساعات طويلة ليدعوك تمر دون تفتيش فيضيع وقتك. قد تخضع لمزاجية البعض ولازدراء البعض الآخر، لتدفع ضريبة ما لم تقم به. سيعاملك بعضهم وفقاً لهويتك، لكنك قد تجد المخلص لعمله منهم وتتعاطف معه، لتحمّله كل هذه الظروف القاسية -خاصة الأحوال الجوية – من أجل تأدية المهمة الموكلة إليه بحمايتك.

وكانت هذه الحواجز رغم غايتها الأمنية قد قطعت أوصال المدينة، وزادت مشكلة الازدحام الخانق، وتركت مبرراً لضعاف النفوس لاستغلال وجودها كمبرر لرفع الأسعار، فسائق التاكسي مثلاً حين يطلب مبلغاً كبيراً من المال لقاء إيصالك إلى وجهتك، سيقول لك: يا أخي حواجز وزحمة، ولن يرضى بأن تناقشه مطلقاً فيما طلبه.

ازدحام غير مسبوق على وسائل النقل العامة

في انتظار وسائل النقل يقف الدمشقيون وقتاً طويلاً آملين وصولها بأسرع وقت ممكن، ويبدأ السباق عند اقترابها.. الكل مستعدون جاهزون لوصولها والقفز إليها حتى. يبدأ الجميع بالركض بأقصى سرعة ممكنة رجالاً ونساء، ويبدأ التدافع العجيب الذي لا ينتهي إلا بامتلاء الحافلة، والمحظوظ هو الذي يصل أولاً، وأما الذي لم يحالفه الحظ، فعليه الانتظار حتى وصول الحافلة التالية ليبدأ سباقاً جديداً مع المنتظرين أمثاله.

وإذا كان هناك أعداد كبيرة من وسائل النقل، إلا أنها لا تستوعب الأعداد الأكبر من الركاب، وخاصة عند ذهاب الناس لعملهم وعند رجوعهم منه ستجد أمواجاً بشرية قد ملأت الشوارع، وسيخيل إليك استحالة وصول هذا العدد الهائل من الناس إلى أماكنهم المنشودة، لكنك ستستغرب أين ذهب كل هؤلاء حين تسير في الشارع مساء ولا تجد إلا القليل منهم.

يقول أيهم (32 عاماً): لن أنضم إلى هذا السباق غير الحضاري، بإمكاننا الوصول إلى وسائل النقل بهدوء ودون تدافع، وسيكون هناك مكان للجميع. سأنتظر وإن كلفني ذلك وقتاً طويلاً، إلا أنني لن أشارك في هذه الظاهرة. علينا تعزيز ثقافة الانتظام.

المواطن السوري من (دوار) إلى (بيتوتي)

تحوّل المواطن السوري في ظل الأزمة إلى مواطن (بيتوتي) يذهب إلى عمله صباحاً ويعود إلى منزله مساء، ولا يغادر منزله إلى اليوم التالي، لا يودع ولا يستقبل. فالخروج من المنزل في هذه الأيام أصبح ترفاً لا يقدر الجميع على تحمّل كلفته، انتظار لوسائل النقل ووقت طويل للوصول إلى أي وجهة تختارها، ومبلغ من المال لتتناول شيئاً ما في أحد المقاهي، عدا أنك ستفضل في ظل أمطار الهاون التي تتساقط أحياناً عدم ممارسة هوايتك بالمشي في الأماكن التي تحب، وستجد أن البقاء في المنزل هو الخيار الأنسب والأقل تكلفة، وتكتفي بتناول مشروبك المفضل أمام شاشة التلفاز.

مواعيد ليست على وقتها

ليس بمقدور أحد توقع الوقت المطلوب للوصول إلى أي مكان، لا أحد يعرف بالضبط كم من الوقت سيقضيه للحصول على وسيلة نقل، أو كم من الوقت سيحتاج الطريق، أو ما هو الوقت المتوقع للانتظار على الحاجز، وإن كان البعض قد وجد حلاً بالخروج من المنزل إلى موعده قبل الموعد بساعات إضافية، لكنه لا يملك أي ضمان للوصول في الموعد المحدد.. كثير من العاملين والموظفين يتعرضون لحسم في رواتبهم نتيجة التأخير، وكثير من أصحاب العمل يستاؤون من تأخر إنجاز اعمالهم ويصلون إلى حد فصل العمال من وظائفهم. أما العشاق فهم الخاسر الأكبر في هذه القضية حين ينتظر العاشق منهم وقتاً طويلاً لوصول من يحب، وقد ينفد صبره إن طال انتظاره، لكنه لا يملك إلا أن ينتظر!

ربا (22 عاماً) طالبة جامعية تقول: لقد فقد الموعد شيئاً من بريستيجه في الانتظار، وفقد الناس القدرة على ضبط مواعيدهم، وذهبت كل المحاولات لتغيير المواعيد من مواعيد عربية إلى مواعيد غربية، بل إنها أصبحت مواعيد سورية بامتياز.

عداؤون دمشقيون

وجد الكثير من الدمشقيين أن المشي هو الحل الأنسب للوصول إلى أي مكان، فالوقت الذي ستستغرقه في المشي قد يكون أقل من الوقت الذي ستستغرقه في وسائل النقل كافة، إضافة إلى أنك ستمارس الرياضة التي لطالما استغنيت عنها، وستتنشط دورتك الدموية، وستصبح في صحة أفضل لولا قليل من آلام المفاصل والقدمين لكثرة ما مشيت، بل وستحظى بفرصة المشاركة في الماراتون الدمشقي لمن سيصل أولاً إلى عمله.

تقول علا: لقد توقفت عن الذهاب إلى النادي الرياضي الذي كنت قد اعتدت على الذهاب إليه، فأنا أمارس رياضة المشي أثناء ذهابي إلى العمل وعودتي منه (شو بدي أحلى من هيك.. رياضة ببلاش)!

صبر أيوب

بعد ثلاثة أعوام من الحرب في سورية، اتضح أن المواطن يستحق جائزة نوبل في الصبر، فهو الصابر المتحمل وهو الضحية، صابر على هذه المأساة التي لم تنته، صابر على الغلاء، على الازدحام، على أزمات لا تنتهي، الصبر سلاحه الوحيد في مواجهة هذا الكم الهائل من مصاعب الحياة، وهو مصرّ على البقاء ومواصلة حياته، متحدياً كل الظروف، بابتسامة تقاوم الانكسار.

العدد 1105 - 01/5/2024