من الصحافة العربية العدد 671

حرب الدولة العظمى: تحويل الشقيق إلى عدو!

أثبتت المملكة العربية السعودية عبر حملة إحراق اليمن وتدمير بنيانها الذي لما يكتمل أنها دولة عظمى: تشن الحرب على مَن يعصي أمرها بلا استئذان وبغير التفات إلى الأكلاف، سياسية بالأساس ومن ثم مادية.

هكذا، بكل بساطة، وبلا أسباب أو تبريرات مقنعة، وبلا رحمة أو إشفاق على جارها الشقيق الفقير حتى الجوع، والذي أسهم أبناؤه في إعمارها، أطلقت طيرانها الحربي في موجات متتالية على امتداد ثلاثة أسابيع، حتى الآن، تقصف مدنه قيد البناء وقراه الفقيرة التي تتسلق الجبال والتلال الجرداء… وقد تخطئ الصواريخ والقذائف المدمرة أهدافها (الحربية)، إن وُجدت، فتصيب مستوصفات أو أسواقاً شعبية أو مدارس فضلاً عن البيوت التي ارتقى بها أصحابها المرتفعات حيطة وتحسباً.

وإذا ما وضعنا روابط الأخوة ووشائج القربى وصلات النسب جانباً، واعتمدنا الحساب المجرّد للأكلاف التي تكبدتها (وسوف تتكبدها بعد) في حربها على (العدو) الشبح، لاكتشفنا أن ما أنفقته المملكة المذهّبة في حملتها العسكرية يزيد أضعافاً مضاعفة عن مجموع ما خسرته اليمن حتى الساعة.

وبحساب بسيط يمكن الافتراض أن كلفة طلعات الطائرات القاذفة تصل إلى حوالي المليار دولار، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. فأرخص قذيفة أطلقت يبلغ ثمنها مئة ألف دولار… وكل غارة تتكلف بالتالي نحو مليون دولار. فإذا ما افترضنا أن بين أربعين إلى خمسين طائرة قد شاركت يومياً في الغارات (على مدار الساعة) لتبيّن أن كلفة الطلعات والقذائف والاستهلاك تصل إلى أربعين مليون دولار يومياً، وربما ارتفعت إلى خمسين مليوناً.

هذا من دون احتساب كلفة استنفار الجيش، وحجز العسكريين، والرواتب المضاعفة، وكلفة الإمداد، وقطع غيار الطائرات، وساعات العمل الإضافية للطيارين والفنيين على الأرض.

بالمقابل فلا قواعد لوجستية عند (العدو)، ولا مراكز للقيادة، وبالتالي فإن القصف من الجو قد يلحق دماراً عظيماً بأسباب العمران، لكنه لا يحل المشكلة.. خصوصاً أن كلفة الهجوم الجوي المفتوح (معززاً بصواريخ الأرض أرض) تزيد بكثير عن خسائر المستهدف بهذا العدوان.

في القواعد بل البديهيات أن الأرض لمن عليها… وما دامت السعودية لا تريد ولا هي تقدر حتى لو أرادت على احتلال الأرض، فلا يمكنها إذاً أن تحقق نصراً مؤزراً، مهما بلغت خسائر اليمنيين، فكيف إذا ما كان على السعوديين أن يحاصروا اليمن بحراً، على امتداد بحر العرب، ثم على امتداد البحر الأحمر ومضيق هرمز ضمناً… وهذه كلفة إضافية هائلة.

منطقياً، وبالاستناد إلى الوقائع أو الذرائع التي حاولت السعودية أن تبرّر بها حربها على اليمن، فإن هذه الحملة بالنار الحارقة لا تحل المشكلة، ولا تؤدي إلى نصر عسكري…

ستبقى اليمن في مكانها، إلى جانب السعودية. وسوف تحل الأحقاد والضغائن ونزعة الثأر محل مشاعر الأخوّة. وستكلّف لحظة الغضب أو عتوّ القوة أكثر بكثير مما قدّر المسؤولون السعوديون، لا سيما الشباب منهم.

… ولو أنفقت السعودية كلفة هذه الحملة المفتوحة على إعمار اليمن وعلى تمكين شعبها الفقير، والأصيل في عروبته، من أن يعيش حياة مقبولة، لربحت في اليمن، بل وفي الوطن العربي جميعاً.

بل إن ضرورات حماية المملكة المذهّبة التي تعرف يقيناً أنها قد اقتطعت أجزاء من اليمن وضمّتها إلى أرضها، بالحرب أو بالحيلة أو بالذهب، لا فرق، كانت تفرض أسلوباً أخوياً في المعالجة، لو حصل لأمنت وكسبت في اليمنيين حليفاً يساهم في حمايتها كشقيق إذا ما هددها عدو، كإسرائيل، إذا ما كانت الذاكرة الملكية سليمة.

لن تكسب السعودية الحرب، ولكنها حوّلت شعباً شقيقاً وجاراً أبدياً إلى عدو، قد تعجزه إمكاناته عن الرد على الحرب بالحرب، ولكنه سيغدو مصدر قلق دائم للمملكة التي أخطأت الطريق والوسيلة.

وبالتأكيد فإن كلفة الخصومة ستكون أعظم من كلفة الحرب على الأخ الشقيق الذي لا يملك الكثير ليخسره، وهذا فارق عظيم آخر بين الأخوين اللذين يحوّلهما الخطأ إلى عدوّين.

طلال سلمان

 (السفير، 16/4/2015)

 

جذور أزمة اليمن: أحلام شعب جائع

لم تكن ولادة اليمن الموحد عام 1990 الحدث الإقليمي السعيد الذي تتطلّع إليه الشعوب الشقيقة الأخرى. فهو تزامن مع حرب الخليج الثانية، وسرعان ما لحقته الحرب الاهلية. مع اجتياح الكويت عاد أكثر من مليون يمني يعيشون في بلدان الخليج المجاورة، وخسر اليمن تحويلات حيوية، كذلك ساهمت الحرب في تهديم بناه المؤسساتية والاقتصادية. إلا أنه، وللمفارقة، سجلت البلاد معدل نمو سنوي متوسط بلغ 5,5%، خلال التسعينيات. لا شكّ في أنّ تقديم معدل كهذا يحمل الكثير من الغش في ظلّ تعطّش الاقتصاد إلى أي مبادرة أو استثمار. غير أنه يبقى ذا دلالة تشرح الكثير ممّا حصل خلال الألفية الجديدة.

لقد كان معظم النمو فارغاً، يعكس تضخماً في قطاعات الخدمات عديم القيمة المضافة العالية، كذلك فإنّ ما تيسّر من خيرات تاه في أروقة الفساد وقنوات التوزيع غير العادلة. هكذا تحوّل هاجس البلاد مع بداية سنوات الألفين إلى (استراتيجية خفض معدلات الفقر)؛ فلنتخيل بلداً تقتصر سياسته الحكومية على كيفية مقاربة سياسات خفض الفقر.

إنه بلد يغرق بقلة الموارد، الطبيعية منها والمبتكرة. لا يغشنّك تأثير النفط: صحيح أن الوقود الأحفوري مسؤول عن 63% من الإيرادات الحكومية وقرابة 90% من عائدات الصادرات، إلا أنه غير كافٍ ليكون مورداً مستداماً، لبلد يعاني الأمرّين جراء موقعه الجغرافي وتكوينه الطائفي؛ لا يُمكنه سوى الندب عند مضيق باب المندب الذي يشهد يومياً مرور أكثر من 3,5 ملايين برميل من النفط العالمي.

 

لا يُمكن تجاهل الحالة الاجتماعية لبلد لا يتجاوز حجم اقتصاده 40 مليار دولار

استمرّت البلاد في التحسّر على ماضيها السعيد وتخزين القات، في ظلّ الفساد السياسي وسوء الإدارة الاقتصادية.

تدريجياً، هوى الاهتمام بالقطاع الزراعي الحيوي، وتراجعت حصّته نحو 15% من الاقتصاد إلى 10% في مطلع الألفية، ليستمر تراجعها إلى ما دون هذا المستوى خلال السنوات اللاحقة. كذلك تراجعت حصّة التصنيع من قرابة 20% إلى مستويات متدنية جداً، قعرها كان 5% خلال السنوات البائسة، مع العلم بأنها شهدت توسعاً نسبياً في مرحلة معينة، وهي اليوم بالكاد تصل إلى 10%.

الأخطر، هو أن النشاطات في القطاع الخدماتي، التي ارتفعت حصتها في الاقتصاد من أقلّ من النصف عام 1990 إلى أكثر من 60% حالياً، تحوّلت من تأمين الإطار اللازم حول قطاعي الزراعة والتصنيع، إلى تأمين الخدمات الملائمة المواكبة لتطوّر القطاع النفطي.

هكذا، بعد عقدين ونيف من التوحيد، وجدت البلاد نفسها في حالة مأساوية: وفقاً لكلام البنك الدولي، فاليمن هو أحد أفقر البلدان العربية، حيث 55% من سكانه يعانون من العوز، وفقاً لبيانات عام ،2012 بارتفاع فاق 12 نقطة مئوية خلال ثلاث سنوات فقط؛ هو بلد يشهد أحد أعلى معدلات النمو السكاني في العالم؛ أحد أكثر البلدان التي تفتقد الأمن الغذائي، إذ إن 45% من السكان لا يضمنون غذاءهم اليومي.

والأمور لا تقتصر على المؤشرات الاجتماعية. فالبلاد تعاني من آفة أخطر هي شحّ المياه، إذ بحسب النمط المسجّل حالياً فإنها قد تفقد المياه كلياً بحلول عام 2020. هي أساساً تعاني من مرض خطير يساهم في مفاقمة المخاطر على أمنها المائي: منظومة الاستهلاك الجماعي للقات، أي المخدّر الاجتماعي الذي يجعل عملية تحفيز الإنتاجية ضرباً من الهلوسة، ويستهلك موارد البلاد على مختلف الأصعدة. قد يُنفق اليمني ما يصل إلى ثلث دخله لشراء هذه العشبة ولممارسة (التخزين) للشعور بهذه اللذة الطبيعية. ووفقاً لتقدير توصّلت إليه دراسة دنماركية، فإن القات مسؤول عن 25% من الناتج المحلي الإجمالي وعن 16% من التشغيل.

إن المصائب الاقتصادية هي في صلب مأساة اليمن الحالية والتاريخية. بحسب تحليل لمركز الدراسات الدولية (IPD) ـ وهو موقع أمريكي مختص بالقضايا الخارجية ـ فإن تخطّي التحديات أمام هذا البلد العربي الصغير غير ممكن من دون تنويع الاقتصاد وتحفيزه، إذ أن ما بين 70% و80% من الصراعات الريفية في اليمن تعود إلى نقص المياه والمواجهات في المجتمعات المحلية لتأمين مصادره. ليس مستغرباً إذاً القول إن الكارثة الإنسانية واقعة لا محالة في حال استمرّت الحالة على ما هي عليه.

اليوم كلّ هذا الكلام موضوع جانباً على وقع أصوات الرصاص والمصالح الإقليمية والغربية. غير أنه لا يُمكننا تجاهل واقع البلاد خلال المسار المحزن الذي أوصلها إلى حالتها هذه؛ مسارٌ أفرز طرح الفدرالية كمخرج من أزمة الموزاييك اليمني، ولكن من دون طمأنة (الشيعة) حيال نفوذهم في اليمن الجديد المتخيّل.

لا يُمكن تجاهل الحالة الاجتماعية لبلد يعدّ 25 مليون نسمة، ولا يتجاوز حجم اقتصاده 40 مليار دولار، وهو محاط بالغنى النفطي في بلدان غنية تتفق على قصفه لضمان مصالحها.

الحالة الاجتماعية كانت مأساوية إلى درجة أن دراسة نشرتها إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في منظمة الأمم المتّحدة عام 2011 ـ أعدّها خبراء من البنك الدولي، من برنامج التنمية الأممي وحتى من وزارة التخطيط اليمنية ـ خلصت إلى الآتي: إن التقدّم الهائل المطلوب لتحسين مختلف المؤشرات الخاصة بأهداف الألفيّة، يجعل تحقيقها مستحيلاً في أفضل الظروف… وبالتالي من الضروري تبنّي أهداف واقعيةً خاصّة (باليمن) يُمكنها أن تُشكّل فعلياً خطّة عمل.

هذا يعني أن التنمية بحدّها الأدنى ـ من حيث محاربة الفقر، تعزيز التعليم وخفض وفيات الأمهات والأطفال ـ كما حددتها الأمم المتّحدة في مطلع الألفية، هي من مواد الأحلام لليمن، تماماً كما هو التشدّق بروح الأخوّة العربية.

حسن شقراني

(الأخبار)

العدد 1107 - 22/5/2024