النرجسية .. عشق الماء أم عشق الذات!
الصباح الجميل قبل شروق الشمس بقليل، والندى الذي يحطّم الكثير من جدران التشاؤم وبيوت الطين.. أن تخرج من البيت وتهبط من التلّة إلى الساقية النازلة من النبع في سفح الجبل، وتخطو خطوات بطيئة بجانبها، ويمكن أن ترشف القهوة أيضاً وتشرّع جناحي سيجارة الحمراء الطويلة.
الفرق كبير ويمدّ عنقه إلى السماء بين الشخص النرجسي، وزهرة النرجس التي ترفع رأسها من الماء وتستقبل زوَّارها برائحة عطرها الصباحي.
نرجس الماء يعشق الماء ولا يعشق نفسه، ولا يقارب في الشبه الشخص النرجسي الذي يعشق نفسه بصورة تفوق الوصف والتصور!
يعتقد النرجسي، خاصة إذا كان كاتباً غير موهوب، أنه فوق النقد وفوق الجميع.. ويبدو أنه قرأ جيداً (الأسطورة الإغريقية)، عن نرسيس الطفل الفائق الجمال، المولود من أمّ حورية ومن أبٍ اسمه النهر. ويتنبَّأ له العرَّاف بأنه سيعيش طويلاً شرط ألاَّ يعرف نفسه..!
النرجس هو نوع من الأزهار، ينبت حول الماء وينظر في الماء.. واستقى النرجسي الذي خطَّ أول قصيدة أو قصة أو فصلاً من رواية باهتة، ينظر إلى نفسه في مرآة الذات النرجسية، ويسرّح شعره ويركّز هندامه ويفتح (إنجيله) ويستعيد سماته، ثم يقلب الصفحات ويتضاحك بصوت يهدر متعالياً، كأنه يحقق الانتصارات في ماراتون سباق ميدان التفوق.
ركّزت الدراسات النفسية (الفرويدية) على سمات النرجسي، باعتبارها تتكلس مع الزمن وتتحول إلى مقدمات لأعراض (مرض نفسي) سببها: تورّم الذات التي تشبه البالون المنفوخ الذي سرعان ما ينفجر ويتناثر نتفاً في الفضاء. ويمكننا أن نستعير بعض السمات من الدراسات المتكررة حول هذا المرض الخطير الذي ينتشر بين ضعاف النفوس.. والتي منها: (التكبّر في التعامل مع الآخرين.. عدم الرضا بقيادة الآخرين له.. الأناقة في ما يخص المظهر الخارجي سواء كانت متميزة أو مهملة.. التفاخر.. الثرثرة.. السلوك المستبد.. انتقاص قيمة الآخرين.. الشروع عند محادثة الآخرين وتحويل الحديث إلى الذات.. وغيرها الكثير).
المفارقة تتسع ولها امتدادات كبيرة، بين نرجس الماء ونرجس الأنا. الماء الذي يشكل 71 في المئة من مساحة الكرة الأرضية، ولا حياة دون الماء. والذات التي تدّعي التفوق على الآخرين علماً أن نسبة هذا التفوّق هي 1,0 في المئة.
لقد قتلت النرجسية كثيرين وجففت خلاياهم الإبداعية. وأدَّت إلى عزل هؤلاء المتعجرفين والمتكبرين، عن العائلة الإبداعية والعائلة (المجتمعية).
كثيرون سقطوا في حُفرة النرجسية قبل أن يصلوا إلى منتصف الطريق، ثمَّ فقدوا نصف الذاكرة ولم تنفع الوصفات الدوائية بسبب انتشار الزهايمر الذاتية والإفراط في التعالي والغرور، وممارسة سياسة تهميش الآخر وعدم إعطائه الحق في التعبير عن رأيه.. أي أن النرجسي لا يفتح ثغرة تسمح للآخر بإبداء رأيه في الموضوع المطروح للمناقشة.
هناك مفارقة حادة بين صفاء الماء وصفاء النرجسية. فيمكنك أن ترى وجهك جيداً في الماء كما كان نرسيس يرى وجهه، كي تعرف إذا كانت هناك تشوهات، كما يمكن للنرجسي إذا أراد أن يراجع ذاته ويحاسب نفسه ويعود إلى مرآة النفس التي تعكس صورة الذات، ويرى النقاط السود التي لوَّثت عقله ونفخت في ذاكرته لوثات النرجسية الكريهة.!
وتظلّ المفارقة كحافتي وادي سحيق بين عشق الماء وعشق الذات..!