موازنة التقشف2013… خنق الاقتصاد تدريجياً
لايكفي أن يصف وزير المال محمد الجليلاتي الموازنة العامة للدولة 2013 بأنها (تقشفية) لتبرير خفض الإنفاق فيها، ولاندري خفايا الرغبة الحكومية في اعتماد موازنة ضعيفة بتقشفها، والبالغة 1383 مليار ليرة، بزيادة 4 بالمئة عن موازنة العام الجاري، رغم أن الظروف العامة التي تمر بها البلاد أمنياً وسياسياً واقتصادياً، لاتتطلب موازنة مثل هذه الموازنة، يتراجع فيها حجم الإنفاق الاستثماري بنحو 100 مليار ليرة مقارنة بموازنة ،2012 بل موازنة قوية، وغير تقشفية، لاسيما أن الاستثمار قادر على معالجة الأمراض الاقتصادية والتنموية القاتلة في الاقتصاد الوطني، وأبرزها البطالة المستفحلة، وأن ينعكس معدل النمو على المواطنين من خلال تعزيز وتنمية قطاعات الإنتاج الحقيقية، إلى جانب خطوات أخرى بالتوازي تتعلق بالإصلاح ومكافحة الفساد.
و لم يفاجئنا وزير المال بإعداده موازنة تقشفية، لأنه يتبع معياراً تقليدياً في هذا المجال، يستند إلى الموارد المتاحة التي على أساسها يمكن إقرار الموازنة. بمعنى آخر (على قد بساطك مد رجليك)، وهي قاعدة لاتنفع في معظم الأحيان، إذ ثمة فرق شاسع بين الموارد المتاحة من جهة ومدى الحاجة للتنمية، ولايمكن الاكتفاء بما لدى خزانة الدولة من موارد ومن ثم النوم بالعسل. إذ لابد من تلبية حاجات المجتمع التنموية والاقتصادية، وتطبيق خطط واضحة في هذا المجال تؤدي في نهاية المطاف إلى معالجة الخلل الكبير بين النقص في الموارد مقارنة بالاحتياجات التنموية والاقتصادية الفعلية.
ويبدو سؤال: لماذا موازنة تقشفية؟ مكرراً ولا نفع له، فمنذ بروز دور الفريق الاقتصادي الذي قاده النائب الاقتصادي السابق عبدالله الدردري، وسورية تعيش حالة من الموازنات التقشفية، والانكماش في الاستثمارات العامة. ويتذكر البعض أن الخمسية التاسعة التي وضعها الراحل عصام الزعيم كانت قائمة على قاعدة اقتصادية أساسية مفادها أن التنمية سيقودها القطاع العام، وبالتالي أعاد الزعيم الروح للإنفاق الاستثماري العام، ليكون مساوياً أو متجاوزاً للإنفاق الجاري في الموازنات العامة، إلا أن الدردري عدل مسار الخمسية التاسعة عبر إعداد موازنات عامة لما بقي من سنوات تلك الخمسية لا تستند إلى التوجه العام وقتذاك. وكان هذا مقدمة أولى للخمسية العاشرة التي التزم مهندسها بخفض الإنفاق الاستثماري العام. هذا ما عاشته سورية منذ نحو تسع سنوات، فالتقشف في الموازنات العامة ليس جديداً على الإطلاق، ومن المثير للتساؤل والدهشة ربطه بما يجري من أحداث حالياً فقط، ولانقلل مما يجري لأنه جزء أساسي ومهم، رغم أنه ـ في قسم منه ـ نتيجة لسياسات حكومية اقتصادية سابقة، لكن بالمجمل التقشف الذي أتى على شكل تراجع في الإنفاق الاستثماري هو سياسة حكومية اقتصادية اتبعتها حكومتا عطري وسفر السابقتين وتسير حكومة الحلقي على الخطا ذاتها.
ثمة تناقضات واضحة في مواقف عدد من الوزراء والمسؤولين الاقتصاديين، إذ لا أحد يعترف بالواقع المالي للاقتصاد السوري، وما يرشح من معلومات رسمية يؤكد أن هذا الوضع جيد، واحتياطي القطع الأجنبي كذلك، وأنه لا خوف في هذا المجال. لكن ما يجري على أرض الواقع له قصة مختلفة، فالعجز واضح، وضغط النفقات إلى الحد التقشفي بات بيناً، والحكومة تصدر دائماً تعليمات وقرارات تطلب فيها من الإدارات ضغط النفقات، ويمكن وصف هذه المرحلة بمرحلة التقشف الاقتصادي وضغط النفقات بامتياز. وبلاشك هناك الكثير من الأسباب التي دفعت الحكومة الحالية لاتخاذ توجه تقشفي بالإنفاق العام، أبرزها ضعف الموارد، وهي الحقيقة التي لم تكن الحكومة تحبذ التطرق إليها، أو مواجهتها علناً، بل ظلت قضية للنقاش داخل الاجتماعات المغلقة، مايعكس عدم الشفافية في التعامل مع قضية اقتصادية ـ مالية دقيقة وحساسة كهذه.
إن ضعف الإيرادات التي كانت تعتمد عليها الحكومة لتغذية خزانة الدولة، والتراجع في الجباية الضريبية، وعزوف عدد من المواطنين عن تسديد فواتير بعض الخدمات العامة كالكهرباء والهاتف و…إلخ، كما أن توقف الصادرات النفطية، وتراجع أرباح القطاع العام، نتيجة ما تشهده البلاد من أزمة خانقة، أفرز نتيجة قاسية هي انخفاض نسبة إجمالي الموارد المحلية إلى إجمالي الناتج المحلي بسعر السوق من 79,28 بالمئة في موازنة عام 2012 إلى نحو 23 بالمئة في مشروع موازنة العام القادم. وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوف في عنق الزجاجة لحظة المواجهة الحقيقية والاستحقاق الذي لا تفضله عادة الحكومات، وهو يتعلق بكشف الأوراق والخفايا كلها. لكن هذا الواقع لايواجه بالتقشف، بل لابد من معالجة أسبابه مسبقاً، سواء لجهة الجباية الضريبية التي تأخذ الحصة الأكبر في موارد الخزانة، أو معالجة وضع المؤسسات والشركات العامة التي تغذي الخزانة بأرباحها، بدلاً من بقاء معظم هذه المؤسسات خاسرة.
سورية في وضع لا تحسد عليه إطلاقاً، والموازنة التقشفية لن تكون قادرة على إنقاذ اقتصادها، والسؤال الذي يبقى معلقاً: أي تنمية ستتحقق من خلال هذه الموازنة؟ وببساطة شديدة التقشف لن يولِّد تنمية، بل سينتج مشكلات اقتصادية واجتماعية أخرى وتقشفاً جديداً، وسيخنق الاقتصاد تدريجياً.