البكاء ملح الرجال…

أول مرة قرأت فيها عبارة (دموع الرجال) كانت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، على دفتر لزميلة دراسة استعرته منها لأخذ محاضرة لم يتسنّ لي حضورها، الزميلة الجميلة كتبت على الصفحة الأولى البيضاء من دفترها عبارة جميلة: صوت الصمت عالٍ… ودمع الرجال غالٍ…

قبل ذلك كنت كما أنا الآن أبكي في أي موقف يستدعي البكاء، أن أرى ظلماً لا أستطيع ردّه سواء كان علي أو على آخرين، أن أودّع شخصاً قريباً مني، أن أقرأ أو أشاهد حكاية مأساوية في رواية أو فيلم، وللأمانة فإن دمعتي أسرع في حالات القراءة والمشاهدة عن الحالات الواقعية، ربما لأن الأخيرة تأتي بعد مقدمات وممهدات تجعلها أقرب إلى المتوقع وغير الصادم.

تتالت الحكايات والقصص والأمثال التي تجمع على اعتبار بكاء الرجل عاراً وتشبّهاً بالنساء، منها قصة آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة (اسبانيا) أبو عبد الله الصغير الذي سلّم المدينة للملك الإسباني فرناندو في يوم شتائي بارد من عام 1492 مُنهياً احتلالاً دام ثمانية قرون، ووقف على تلة عالية تطل على غرناطة- سمّى الإسبان ذلك الممر الجبلي بـ(زفرة العربي الأخيرة)- ومعه أمه وحاشيته، وذرف دموع الهزيمة والوداع، فقالت له أمه عائشة الحرّة قولتها التي مضت مثلاً:

ابكِ مثل النساء مُلكاً مُضاعاً     لم تحافظ عليه مثل الرجال!

هذه من آلاف القصص والأمثال التي تذمُّ دموع الرجال وتجعلها نقيصة وعاراً لا فكاك منه.

لكن الدموع هي حقيقة الإنسان، رجلاً أم امرأة في لحظات من العمر، وسيئة الأعراف والتقاليد أنها تُجبر الإنسان على لبس أقنعة متعددة طوال حياته، تُبعده عن حقيقته، فقط لإرضاء الناس، الذي هو غاية لا تدرك. من أهم هذه الأقنعة قناع (الرجولة) الذي يُلزمه بحبس دموعه وتمثيل دور القوي المُهاب، وكأن الدموع ضعف واستكانة.

الدمع من سوائل الجسم التي تعمل على ترطيب العين وتنظيفها، ولا غنى للإنسان عنه، ومما يتميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات، أن دموعه تسيل في حالات عاطفية(حزن، فرح، الم…) وهذه هي الدموع التي يُعيّر بها الرجال في مجتمعنا.

إنها من حالات الأسر التي يمارسها المجتمع على الرجل، ويمكن وضعها في الموضع نفسه للقهر الممارس على المرأة، سواء لجهة إلزامها بلباس معين وحجاب، أو لجهة إبعادها عن المساهمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وحصر وظيفتها في تربية الأولاد والمطبخ، فالرجل أيضاً يخضع لاشتراطات الوعي الجمعي الذي تكون عبر مئات السنين، والذي يفرض عليه أشياء تتنافى مع طبيعته البشرية وروحه، ومنها (حظر البكاء) إن صحت التسمية.

ينسى حراس الهياكل البائدة أن كبار التاريخ وعظماءه بكوا أحياناً في مواقف تستحق ذلك، وينسون أن الحزن والفرح حالتان إنسانيتان لهما طرق تعبير واستجابات فيزيولوجية لا مفرّ منها، لكنهم يُمعنون في جهلهم وجمودهم كإحدى آليات الدفاع الذاتي التي تمارسها الجماعات الهمجية، حين ترفض المنطق والعقل والعلم تحت مسميات الدفاع عن الهوية الثقافية أو القومية، وعن الأصالة والتراث والقيم وغيرها من الشعارات الكبرى التي تُخبئ خلفها وعياً زائفاً سطحياً.

الرجل الحقيقي يبكي ويعشق، ويلعب مع الصغار ويحاورهم، ويعترف بأخطائه، أما الرجل (المنفاخ) بلغة الشارع فهو الذي يضع أقنعة تُضيّق عليه حياته، لكنه يبقى متمسكاً بها ليتابع تمثيل دور لا يليق به في الحياة.

رداً على هذه العقلية المريضة لنكرس مقولة: أنا أبكي.. إذاً أنا رجل!

العدد 1140 - 22/01/2025