السيرة العاجلة لحياة مقتطعة!

ما يشي به العنوان، هو محاولة سيرة ذاتية تخاتل ميثاقها، سيرة ذهنية ربما يبوح كاتبها الافتراضي بما سقط من سطور مدوناته بوعي أو بلا وعي، وحسبه أنه يفكر بصوت مسموع، ليس بحثاً عن (رقعة) يرتق بها ما اهترأ من كلام، أو خيط ناقص في ثوب أحلامٍ صارت ركام كلام، فمثلاً يقول الشهيد كمال عدوان: (كنت أحلم أن تكون مذكراتي (اعترافات) صادقة أدونها مواكباً كل حياتي حتى تجيء اعترافاتي الإنسانية كاملة صادقة، فأنا من هواة كتابة الاعترافات في محراب التاريخ، أكثر من كاتب مذكرات تمليها أحداث معينة، ووقائع يزيفها المزيفون بوعي أو بدون وعي).

وفي مكان آخر يخشى المبدع أحمد عبد المعطي حجازي أن يكون قد أضاع من الوقت اللازم لكتابة هذه السيرة أي سيرته، شطراً لا يستطيع الآن تعويضه!

 هل نحن إذن في تأويل نهايات العمر التي يسميها الشاعر والناقد ورد ذورث (مساء العمر الجميل) لتكون تأليفاً منتخباً لأشتات الحياة، وصوغاً آخر للتجارب، وعند الروائيين تصبح الرواية هي السيرة المقنعة، وعند الشعراء تأويلٌ لاصطياد سرب الحمام الجميل.

فهل هي سيرة الأمكنة أو الأزمنة لاجتراح شهادة لشاهد حقيقي على العصر، (والشهادة لغة وكل لغة شعرية مجاز) هكذا يقول الكبير أدونيس؟

أم هي  محض اعترافات، جرياً على عادة غربية الشكل لا سيما عند من يدركه الرحيل عن الحياة فكأن الذي قاله كان محض مغامرة لا عقل لها، وما سيقال تالياً هو التقاط لجذور الكلام في لحظة صحو كانت مؤجلة؟!.

ثمة من يحجم وآخرون يأتون إلى السيرة بشغف الكلام فحسب.

 فإذاً قل لي ما هي سيرتك أقل لك من أنت!.

يا لهذه الذاكرة المثخنة كم تحتمل وحشة السفر إليها ومنها، لنطل -كقراء محتملين- على ما كان مسكوتاً عنه وتوارى تحت مسميات الإبداع.

وفي زمن الصورة كيف تصبح السيرة حية مرئية لطالما كانت الصورة في الكلمة جاذبة للخيال وفعالياته المعروفة أشبه بالمرور من ثقب إبرة أو توسل فردوس مفقود ترتاح إليه الكتابة لتحاور قارئاً يهجس بهمس مختلف في زمن يتشابه فيه الكلام، حتى لتراه وكأنه مستنسخ كلمة كلمة ونصاً نصاً وخطاباً خطاباً، مواربة أو استدارة أو إعادة تثقل كاهل من سبقها.

لمَ السيرة إذن، ثمة من يقول بنزوع فلسفي لصوغ رؤية للذات والآخر والكون، ومهما تكن المبررات مقنعة لحيلة انعتاق من قول أسير ولو كان كثيفاً في كتابات مديدة، بعد أن يكف في صدر كاتب ما طائر السنونو عن القدرة عن المخاتلة ليقف على أرض الكلام ويحرر المعنى، وفي وهمه أن قارئه سيعبر إلى نصه الآخر ليبثه ذلك المعنى الخالص ويذهب سعيداً كمن التقط حجراً كريماً!.

إذاً في السيرة سيذهب ذلك الكاتب إلى الكلام المباح ليزحزح كثافة موت، في سيرة الحياة المؤجلة وحلم كتابة مازالت ترى الذات نصها الأصلي لتعيده لأفعال الإبداع، ويعود السؤال: كيف السيرة؟

 لعل المعنى في الماهية وفي الحوار مع زمن آخر عندما تتماهى سيرة الذات بسيرة الجمع، أو كما يحلو لكثيرين أن يسموه (التورط) بالأمل وبالحلم اللذين لن يعودا لقيطين تماماً، وحيث تبدأ السيرة الملونة فلننظر أين نقف حقاً لنرسم تلك الصورة المشتهاة.

 في أزمنة سالفة فعلت الرواية في غير مكان فعل الولوج لسيرتها الذاتية فضلاً عن سيرة كاتبها، وفي تلك الأزمنة بالذات كانت سيرة الحياة المقتطعة من أشداق الموت تأتي كنثارات أو هوامش لتؤجل أقداره، وفي زمننا الموشى بالانتظار تبدو السيرة بمعنى ما، هي المعجل لأنها أصبحت تكتبنا.

في محاولة سيرة ما تتقنع الذرائع بالأشكال الأدبية المتاحة أو المجترحة، ربما لتبثنا ما أصبح سقط متاع، ولربما سعى الكتاب المحتملون في أزمنة قادمة أن يجعلوا من السيرة خارج وقائع بعينها لتكون سيرة السيرة وعلامة على تحول اللغة لتكتشف ذاتها كمصادفة لا تلقى على الشاطئ مجانية!.

لنجد في المقابل أن الحياة أصبحت مجاز سيرتنا جميعاً الآجلة أو العاجلة، هكذا تجدد المفارقة ذاتها.

العدد 1107 - 22/5/2024