احتفالات الذكرى السبعين لعيد النصر… انقسام في أوربا

إن الإبداع يجب أن يحل قيماً جمالية هائلة لتشمخ أمامنا كقمة عظيمة. هذا الوصف ليوري بوندريف للحياة في الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، ومناسبة ذلك أننا نرى اليوم محاولات لتزوير وتشويه التاريخ وأحداث الحرب العالمية الثانية، بل والكذب الصارخ والسافر لتشويه صورة جيل كامل ضحى بكل شيء من أجل هذا النصر.

وإنه لمن العار أن يدق إسفين قطيعة بين الشعوب واستعمال التاريخ والتلاعب به في اللعبة الجيو سياسية، لأن خطرها يكمن في زرع تصورات تاريخية مشوهة في عقول الشباب.

والسؤال الذي يطرح: لماذا قامت روسيا بأكبر عرض لها منذ سبعين عاماً، أي منذ الحرب نفسها والحضور السياسي الأضخم في تاريخ المناسبات السياسية العالمية؟ فقد حضر أكثر من 30 رئيس دولة يتقدمهم الرئيس بوتين والرئيس الصيني ورئيس وزراء الهند ورئيس جنوب أفريقيا وفيتنام ومصر وكوبا وسلوفاكيا والبوسنة وقبرص وصربيا والتشيك ووزيرا خارجية إيطاليا وفرنسا وحفيد ونستون تشرتشل ممثلاً لبريطانيا.

كما عرضت أسلحة متطورة بمشاركة 16 ألف عسكري و190 قطعة من المعدات الحربية و150 طائرة ومروحية تتضمن الأحدث في العالم، منها القاذفة سوخوي 34 والميغ 39 وغيرها من أنظمة صواريخ مختلفة، كما شارك ممثلو 10 دول في العرض العسكري، منهم رابطة الدولة المستقلة إضافة إلى الهند ومنغوليا والصين وصربيا.

مشاركة الدول الغربية والناتو جاءت خجولة في ظل التصاعد المستمر لوتيرة المناورات العسكرية بين روسيا والناتو، وكذلك التصريحات التصاعدية بينهما. فتيل التوتر بدأ في الاشتعال منذ الغزو الأمريكي للعراق وتسارعت الوتيرة بالتدخل العسكري الروسي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008 وبعد ذلك ضم شبه جزيرة القرم إلى الوطن الأم روسيا، كل ذلك أظهر أن موسكو أصبحت أكثر قوة ونفوذاً لم يسبق له مثيل منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أمام أمريكا وأوربا.

هنا نلاحظ أن أمريكا والناتو اتبعت خطة، بعد التدخلات الروسية في جورجيا ودخولها في حرب استغرقت ساعات لنقل أطراف العاصمة تبليسي، وصولاً إلى مايسمى التدخل الروسي شرق أوكرانيا، وضعت خطة وهي فتح جبهات سياسية وأمنية في مناطق النفوذ الروسي بشكل يجعل قيادتها تنشغل داخلياً وخارجياً، ووضعها في حالة استنفار دائم يبطئ الصعود الروسي المتنامي إلى مرحلتين:

– فتح الجهات وتوسيعها.

– إغلاق الجبهات وتقليلها.

المرحلة الأولى: بدايتها كانت الانقلاب على الرئيس يانكوفيتش الموالي لروسيا في أوكرانيا عام 2014 وبالتالي سيطرة الموالين للغرب على مقاليد الحكم، فوجدت روسيا نفسها أمام تهديد مباشر راهن فيه الغرب على عدم التدخل العسكري الروسي، ولكنها تدخلت بشكل سريع ودقيق وبسطت سيطرتها ونفوذها على شبه جزيرة القرم حيث قاعدة أسطول البحر الأسود، وإقامة استفتاء وافق فيه سكان القرم على الانضمام لروسيا.

كما فتحت الولايات المتحدة جبهات أمام روسيا في كل من سورية والعراق وليبيا ومصر إلا أن روسيا دعمت جميع هذه الدول بكل الأنواع الحديثة من السلاح، ووقوفها معها في كل المحافل الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن.

أما المرحلة الثانية: فتمكنت من تقليص الجبهات، فوقّعت مع كوبا مذكرة تفاهم، وحققت كذلك انفراجاً في الملف النووي الإيراني على الصعيد الأمريكي.

أما إسقاط طائرة بريدتيور أن كيوا الأمريكية فوق اللاذقية وتصريحات رئيس هيئة الأركان  الأمريكية بخصوص المناطق العازلة وحظر الطيران فوق حلب، فتأتي في سياق الدعم العسكري والمعنوي للعصابات المسلحة الإرهابية في الداخل والخارج السوري، وما ظهور طائرة سوخوي 33 في أجواء حمص إلا دليل على الدعم اللا متناهي من روسيا لسورية.

الرد الروسي

جاء الرد الروسي بأن حافظت على علاقتها وتعاونها مع سورية أولاً، وبدأت تطور علاقتها مع مصر وشرعت في صياغة علاقة عسكرية معها، وكذلك مع كل من فيتنام وقبرص واليونان ودول أمريكا اللاتينية. وفتحت في فيتنام قاعد كام رانه العسكرية ووضعت فيها قاذفات من طراز سوخوي 34 وطائرة نقل إليوشن 78 وقطعاً بحرية روسية ومشكاة للبحرية الروسية حيث تنفذ طلعات في مواجهة قاعدة غوام الأمريكية التي يرابط فيها الطيران وقطع من الأسطول الأمريكي.

فنزويلا من جانبها رفضت التهديدات الأمريكية لها وشرعت بمناورات جوية مع روسيا والصين، وأقرت بتقديم مساعدات وتسهيلات للبحرية الروسية وكذلك لسلاح الجو.

قبرص من جانبها فتحت تسهيلات لروسيا في قاعدة (أندرياسباباندريولا) قريبة جداً من القاعدة البريطانية أكروتيري.

في النهاية فإن عدم مشاركة الكثير من الزعماء الغربيين في احتفالية موسكو، في الذكرى السبعين للنصر على النازية، وإثارة القلاقل مع تخوم روسيا، له دلالاته، ولكن الأكيد أن هذه الذكرى تعيد إلى الأذهان حقيقة أن روسيا كانت على شفير الهزيمة خلال الحرب العالمية إلا أنها صمدت ودخلت برلين وانتهت حقبة النازية، فهل يقرأ الغرب هذه المقاربة قبل وصول التوتر في منطقة البلطيق إلى مرحلة الانفجار؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

الأهداف والنتائج

من الواضح أن هدف أوباما وكاميرون من تصريحاتهم بأنهم لن يذهبوا إلى موسكو للمشاركة في الاحتفالية رغم معرفتهم بأن روسيا أكثر دول الحلفاء تضرراً من هذه الحرب، أنها قدمت الغالي والنفيس من أجل تحقيق هذا النصر. وعدم حضورهم إلى موسكو يعني أنهم إلى جانب هتلر، وحضورهم يعني أنهم إلى جانب الحليف الروسي إبان الحرب.

فعدم حضور البعض وفرض سياسة العقوبات غير الشرعية ومحاولة معاقبة روسيا بسبب دفاعها عن الحقيقة والعدالة وحمايتها لمواطنيها أدت لنشوء هذه الأزمة، وإن جهوداً غير مسبوقة تبذل  من أجل تشويه صورة روسيا وسياستها متناسية أن المواطنين الروس يدعمون سياسة بلدهم الخارجية، رغم وجود قوى وجهات تسعى لتتلاعب بمواضيع تاريخية. وهناك عمل منظم في مواجهة تزوير التاريخ وتمجيد النازيين. وهكذا فإن جميع المحاولات التي تريد النيل من روسيا كقوة عظمى أراها فاشلة بامتياز لأن نتائج هذه المحاولات سيكون أثرها عكسياً لمصلحة روسيا والدول التي تؤمن بحقوقها بسبب هذا التغول الأمريكي الغريب.

أما نتائج الحرب العالمية وتأثيرها على روسيا ومجتمعها فكانت:

على الصعيد السياسي

– انتقال الزعامة الدولية للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بدل الدول الأوربية.

– فرض معاهدات صلح واستسلام على ألمانيا وحلفائها.

– ظهور موجات التحرر في دول العالم الثالث.

أما النتائج الاجتماعية لهذه الحرب فكانت:

– مقتل أكثر من 60 مليون شخص منهم 26 مليوناً من الاتحاد السوفييتي فقط.

– ارتفاع أسعار المواد الغذائية وندرتها وتدني المستوى المعيشي بسبب التدمير.

– وجود ملايين الأيتام والأرامل كنتيجة من نتائج الحرب.

أما على الصعيد الاقتصادي فهي:

– تدمير عدد كبير من المصانع.

– تدمير الجسور والطرقات.

وكانت النتائج على الصعيد العلمي:

1- ظهور الطائرة النفاثة.

2-  اختراع الصواريخ.

3- اختراع الرادار.

وكانت من النتائج السياسية أيضاً تقسيم أوربا إلى قسمين:

1- قسم يتبع الولايات المتحدة وحلفائها وكان ليبرالياً رأسمالياً، وسمّي فيما بعد حلف الناتو.

2- قسم يتبع الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية وهي شيوعية سمّي فيما بعد حلف وارسو.

كما أنشئت الأمم المتحدة عام 1945 للحفاظ على السلم العالمي، وهي فقدت هذا الدور نتيجة الغطرسة الأمريكية الأحادية القطب.

العدد 1105 - 01/5/2024