مهنة المجانين!

ذات تساؤل

ما الذي حمل فيلسوفاً معاصراً-لن نختلف على تسميته بالفيلسوف- هو ميشيل فوكو على أن يؤرخ للجنون في العصور الوسطى؟ ومن ثم فهل غدا حديث الجنون هو تورية لعقل استقال وذهب في إجازة طويلة لا يعلم سوى الله متى تنتهي؟

وتنبه دراسات مثقلة بالفكرة إلى أن عدد المجانين سيرتفع في زمان قادم إلى خمسة أضعاف عددهم الحالي، وأولئك المجانين الذين وضعهم المجتمع على الدوام في أقفاص مغلقة وداخل أسوار عالية، اللافت أنه كان لهم مركز مهم في بلاط الملوك وقصور الأمراء، بل إنه قد صدرت كتب في هذا المجال بعناوين غريبة منها: (أعياد المجانين ومهرجاناتهم)، (وصولجان الملوك وصولجان المجانين)، يتناول الكتابان حياة المجانين ودورهم في التاريخ الأوربي.

وفي القرون الوسطى جرت مهرجانات بمناسبة (أعياد الحمار) كان الفقير والساذج والبريء من يشتركون في هذه الأعياد، التي رأى بعضهم أنها هدفت إلى قلب القيم القائمة، فمجانين القرون الماضية عاشوا حياة مريحة، فلهم خزائنهم المملوءة بالثياب الفاخرة، وأحصنتهم وعرباتهم وأمكنة إقامتهم، في مقابل أن يطلب منهم تأدية بعض المهمات وأولها الإمتاع والإلهاء، وكان عليهم أن يعرفوا القصائد الخرافية الحكمية والأشعار الخفيفة، وأن يرتجلوا أعمالاً بهلوانية عند الطلب.

ومن لم يكن ناجحاً ولم يعد يفي بالغرض، كان يطرد من البلاط. ولشكسبير رأيه بمهنة المجنون في الماضي إذ يقول عنها في مسرحيته (ليلة الملوك): (إنها مهنة صعبة على قدر صعوبة فن الحكمة التي تتحول إلى الجنون فتتخلى عن كل روحية، إنها لمهنة شاقة).

فملوك الجنون الذين حكموا ملوك فرنسا قد أصبحوا في أزمنتهم الأخيرة هامشيين كمجانيننا، الذين أصبحوا حكايات طازجة تبثها خشبة الواقع، فلا خزائن لهم سوى ما يملكونه من أسمال باهتة تكاد لا تستر عريهم يحملونها، ولا حكايات خرافية ذات طابع هزلي يروونها، إنهم إذناً المطرودون ليس من البلاط بل من البيوت، ولعل الحكاية التي تلملم أجزاءهم تحكي بهزلية دامعة كيف هجرتهم عقولهم التي عجزت عن التفكير فظلوا خارج نعمة التفكير يرددون كلمة واحدة نريد أن نأكل، وكأن الجوع أصبح اللغة القديمة الجديدة لمن ظهروا كظلال باهتة على مسرح الحياة، وإذا استمعت يوماً إلى أحدهم فقد تشاطره الرأي وربما تجلس إلى جواره لتندبا حظاً عاثراً وعقلاً لا يصلح سوى للترف، وأن من يستخدم العقل اليوم، سيبدو لمتندر عابر كمن يلقي نكتة سمجة في آخر الليل. كان للراحل ممدوح عدوان كتابه (دفاعاً عن الجنون) وربما أراد أن يقول دفاعاً عن العقل الغائب الحاضر، وكيف كان نقيض التفكير (عقلاً جهنمياً طليقاً)!

فمنذ (غاليلو وكوبر نيكوس) كان العقل هو الاسم الشرعي للإنسان، واليوم قام الجنون بما لم يقم به منذ أن وجد على هذه الأرض، فأن تتعاطف مع صور مبثوثة هنا أو هناك لا دليل على الحياة سوى أنينها الناحل، فكأنك تذهب إلى بقية من حياة عليك القبض عليها، ولا بأس أن تأخذك إلى جحيمها حقيقتها بدلاً عن فردوس أوهامها، فقد يستوي يوماً أن المجنون طليقاً والعقل شريداً في مرايا تجيد التحديق بنا جميعاً.

وبعد…

فما هي مهنة المجانين، لا سيما مجانين عصرنا اللاهث المضطرب الخطا؟ هل نخترع لهم حكاياتٍ لا تشبه ذاتها؟ وهل لمجانين الإبداع أن يكفوا عن عالم افتراضي بما يكفي سوى في الشاشات الصماء؟

كانوا رواة الهزليات، لكنهم اليوم شهود هزليات الحياة وساخروها، فقد يتشظى الهزل ليحبسنا البكاء في غصة هي الأخرى حبيسة. تصوروا أن مخيلتنا إن بقيت على قيد الخيال، أن توزع ما لم تعد قادرة على اختراعه، توزعه على أزمانٍ أخرى قد تكون فيها مهنة المجانين من تتطلب أوراق اعتماد نادرة.

العدد 1107 - 22/5/2024