«جمهوريات» الفساد

عندما يصبح القانون سجيناً في المعتقل يبدأ المجتمع بالتحول والتفكك لصالح أصحاب المصالح الحالمين بتكوين إسطبلات لقصورهم ليحشدوا فيها أكبر عدد ممكن من العبيد..

الحرب المشتعلة منذ ثلاث سنوات وأكثر، والتي طحنت برحاها، جميع البنى المجتمعية، وهمّشت المواطن الذي أصبح الفريسة الضعيفة للفساد الحكومي الذي غيّب القانون واستبدل به بالواسطة والقربى والعلاقات الخاصة، مما أدى لتفشي الفساد المجتمعي القاتل لحيوية المجتمع الذي يعتبر المواطن أساسه. على خلفية هذا الفساد برزت (جمهوريات) مجتمعية فاسدة تتحكم بالمواطن، وقانونها الوحيد هو الاستغلال من أجل بناء القصور وفتح الحسابات البنكية واقتطاع الأراضي وغيرها. وفي هذه السطور، نعرض مظاهر من جمهوريات الفساد التي تشكلت في الفترة الماضية من دون مساءلة ولا حساب….

أولاً – جمهورية الكازيات

هي أول جمهورية أعلنها أصحاب المستوى الرفيع بعد أن وضعوا القانون تحت أقدامهم، فالتسعيرة الحكومية ليس لها أهمية أبداً، فسعر بورصة السوق السوداء هي الأساس في التسعير اليومي لمادة الديزل التي تعتبر الشريان الأساسي لحياة المجتمع التي تعرضت للشلل بسبب ارتفاع تسعيرة الديزل لأكثر من ضعفي التسعيرة الحكومية واحتكاره لأيام… وقد بدأت هذه الجمهورية بالتشكل منذ شهر أيار الماضي بعد أن رفعت الحكومة سعر البنزين إلى 120 ليرة سورية، ويمكن أن تقدم مثالاً لهذه الجمهورية كازيات منطقة مصياف التي أصبحت خارج نطاق القوانين السورية لتعيش المنطقة فساداً واستغلالاً لمواطنيها يدون بكتب التاريخ الحديث، وانتقل فيروس هذه الجمهورية الذي أثبت نجاحه الكبير إلى مدن الساحل السوري الذي بات أصحاب كازياته مسؤولين من المستوى الرفيع وقد وضعوا بعض الكلاب الشرسة لتحرسهم إن تهجم عليهم أحد وطالب بتطبيق القانون، ومثال أحد هؤلاء السادة العظماء في هذه الجمهورية رجل يملك على أوتستراد جبلة- اللاذقية أكثر من 5 كازيات، والسؤال: كيف لشخص واحد أن يحصل على كل هذه التراخيص؟

وبسبب ما حققته هذه الجمهورية من نجاح كبير وخاصة بأن ليتر الديزل يصل ربحه إلى أكثر من ضعف سعره تفشت ظاهرة الكازيات، وصرنا نرى في أكثر من منطقة عشرات الكازيات التي تشيد بسرعة هائلة.

وعلى خلفية جمهورية الكازيات فإن أتباعها وملحقاتها من أصحاب وسائط النقل التحقوا بقانونها وتسعيرة السوق السوداء… فيومياً تجد أن تسعيرة الركوب ترتفع بشكل تلقائي، ولم تعد ترى تسعيرة الحكومة في وسائط النقل.

السؤال الأخير للحكومة الجديدة: هل ستبقون ساكتين وستدعمون هذه الجمهورية؟ وهل تستطيعون أن تضعوا مؤسسيها تحت سقف القانون الذي سيحاكمهم على جرائم الاستغلال؟ أم أنهم هم من سيطبقون قانون جمهوريتهم على حضراتكم؟

ثانياً- جمهورية التموين

المسلسلات القديمة لم تعد تجدي وباتت مستهلكة ورخيصة ونهاياتها مكشوفة.. فكان لابد من صياغة مسلسل جديد يواكب العصر يتسم بالكذب والنفاق المجتمعي الذي سوف يبهر المواطن ويرعبه، فابتكروا مسلسلاً جديداً ينص على فحص محتوى علبة التونا والسردين والمواد الغذائية، وأنها يجب أن تُحَلّل في أفواه مديريهم الفارغة كي يتبين صلاحيتها للاستهلاك البشري، وهذا ما يحدث منذ فترة في منطقة مصياف، قانون جديد في التموين ينص على أن يذهب موظف التموين إلى البقاليات ومحلات التموين العائلي ويأخذ من كل منها مايقارب 6 علب أو أكثر من كل نوع من أنواع التونا والسردين وغيرها، ويقول للبائع بأنه سوف يأخذها للتحليل خوفاً على صحة المواطن، مع العلم بأن ماركات المعلبات معروفة الشركات والمصدر، وتحمل كل العلامات التجارية والتراخيص الصحية وتاريخ الصنع.. ومع العلم أيضاً بأن المنتج يخضع للرقابة الغذائية في الشركة المنتجة له…. وما يحدث هو جمع كميات كبيرة من المعلبات من قبل تموين مصياف وإعادة بيعها للبائعين من جديد، فيجب على ما يبدو أن يكون هناك مصدر دخل آخر لزيادة حساباتهم البنكية… فالقانون نائم الآن وليس هناك رقابة حكومية ولا مساءلة، فالدعم موجود وهناك حماية وتوصيات خاصة لجماعة جمهورية التموين المصيافية، والمواطن يدفع الضريبة بوطنيته وطيبته وحبه لبلده.

السؤال هنا: إلى متى سيبقى المواطن فريسة استغلال بعض المؤسسات ودوائر التموين، يا سيادة الوزير الجديد؟

ثالثاً- جمهورية القمامة

شعارها: لترتقِ شوارعنا بالأوساخ ولتصبح بيئتنا مأوى للفيروسات والأمراض!

انطلاقاً من هذا الشعار بدأ تكوين هذه الجمهورية الجديدة الرفيعة المستوى والتي تتركز مهمتها على جعل الأوساخ والروائح الكريهة في كل شارع من شوارع اللاذقية، بسبب غياب رقابة الإدارة المحلية للمدينة… وبعد أن كانت اللاذقية عروساً جميلة يكللها الشريط الأخضر والنظافة ورائحة الأزهار المزروعة في الحدائق وعلى حواف الشوارع، أصبحت اليوم عروساً للقمامة والأوساخ التي تملأ الشوارع وروائحها النتنة والكريهة قضت على كل شيء جميل، شعارات البيئة الحكومية باتت حبراً على ورق لا أكثر، يكثر الحديث عن موضوع القمامة والقاذورات التي تملأ شوارع المدينة في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي ولكن لم يحُرِّك أحد ساكناً أبداً.

فكان لابد للقمامة أن تؤسس جمهورية مستقلة، مستغلة وضع القانون النائم.

ولكن ماذا سيحدث لو انتشر وباء قاتل في المدينة على خلفية هذه الجمهورية؟ هل تستيقظ عندئذ وزارة البيئة ووزارة الإدارة المحلية؟

إلى أين سوف نصل مع غياب القانون في البلد وتفشي الاستغلال والمحسوبيات حتى صار الفساد سيداً وقوراً للمجتمع؟! وكم جمهورية مماثلة أخرى سوف تنشأ في المستقبل القريب؟

العدد 1105 - 01/5/2024