سبحة جرداق!

دهشة

في ثمانينيات القرن الماضي، وعلى الأرحج في منتصفها تماماً ثمة ساخرٌ عربي، كان يدون ما تقع عليه عينه وما يسمعه وما يقع عليه من حكايات ظريفة، يلملمها بطريقة جد هزلية، ليجدف في أمواج الواقع المتلاطمة، يستخلص منها معنى، إذ يؤثر لها سياقاً حكائياً فاتناً، ربما يصاب من يتصل به تأثراً بنوبة من الضحك الخفي، ومن السخرية اللاذعة.

كان ذلك الرجل، على ما يبدو، قد هضم تراث الظرفاء، وراح يكتب أمثولات الواقع المعيش، لتأخذ كتاباته نسبها من اسمه (جرداقيات) وهي أفكار متسلسلة، متصلة ومنفصلة، وقارئها مشارك فاعل لا منفعل.

هو جورج جرداق، أحد كبار الساخرين الذي كتب ما يشبه التوطئة لما سيبوح به من أفكار، تنفتح على واقع هو ذاته الواقع الذي يبدو أنه تتغير فيه الأسماء فقط، وتبقى (الحواديت) بطلةً إضافيةً ربما لقارئ يسعى إلى أن يتخفف ما أمكنه من كسل اللغة واسترخاء المفردات ليظل يقظاً ويقرأ لمن يؤثر السفر البطيء الممتع في صحبة الحصان، أو الحمار على السفر المتشنج السريع في صحبة الآلة، وإلى أن السفر في صحبة الحيوان الأليف كما رآها جرداق هو ضالة مسافر يحيا في أعماقه الإنسان لا التاجر، أو الرجل (العصري) الذي يسرع في مسيره ويسرع ويظل يسرع إلى أن يهلك.

 فهل أصبح امتطاء تلك الحيوانات الأليفة ضرباً من الزمن الجميل، هذا إذا لم يكف مشينا في شوارع أصبحت كالكلمات المتقاطعة، ولشدة كثافة السيارات أصبحنا نحتاج إلى بوصلة لنسير وسط تلك السيارات، التي أثقلت عن غير قصد ربما كاهل شوارعنا، وربما في زمن آخر نحتاج إلى عبقرية طرزان، وهو يرمي حباله بخفة وبراعة فوق الأشجار العالية ليقفز هنا وهناك، فالأبنية العالية هي مجاز أشجار الأمس، لكن عبقرية طرزان، قد تبدو قديمة بعض الشيء، فلا بد لمخيلتنا إذاً من تجديف في غير اتجاه، نظراً لأمواج كثيفة لا حد لها!.

وهكذا بالعودة لسبحة جرداق التي يبدو أنها ستستهدف المنجمين ومدى ما يُذهِبون به عقول الناشئة والنساء، فقد يصح القول مجازاً (صدق المنجمون ولو كذبوا)، ونظراً إلى الآمال المستنبتة في العقول، والتي يصحو بعدها البشر على الشيء ذاته، فجرداق يرى ضرورة معاقبة المنجمين لأنهم تسببوا بما يفيض عن الأحلام، وما يفيض عن الطبائع ولو من باب اللوم والتقريع، لكننا على ما يبدو هذه المرة، نظل أسرى الأمل سواء جاء من خطوط الفناجين أو من خطوط اليد أو من بصارةٍ تاهت بها الدروب، نظل نتوسله ونتواطأ مع فواصله المكشوفة، هي لعبة إذاً، لا خاسر فيها ولا رابح في الآن ذاته.

ويمكن لسبحة جرداق أيضاً، أن تذهب إلى الثروة (التي تهبط علينا من قدمينا) ومقابل ذلك ما حال المؤلف الجائع والبردان، الذي يسهر طيلة الليل في التأليف والتركيب، ماذا لو عمل المتنبي والجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني، لكي يقبضوا على مبلغ زهيد هو مليون ليرة مثلاً، هل تكفي كتابتهم لأن يحصلوا ذلك المبلغ بسرعة؟.

حكايات على الطريق..

يقول جرداق: (قد يكون الطريق الذي يوصلك إلى مكان تقصده أجمل أثراً في نفسك من المكان المقصود، ومن الوصول إليه).

حقاً في زمنٍ آخر قال محمود درويش: الطريق إلى البيت أجمل من البيت، إذاً، فهل نظل أسرى تلك المعادلة التي يذهب نصف عمرنا من أجلها، وهي اكتشاف الطريق وعبوره، لعلنا نسمع عن الطريق حكايات تفيض بها مخيلة الواقع، ذلك أن الواقع ذاته قد أصبح أغنى مما نظن، وأصبح (خياله) كثيفاً بما بعد الحكايات، فهل نؤرخ أم نكتفي بمجرد العبور فقط؟ إلى أين؟ لا أحد يجيب راهناً، وربما سيجيب الجواب ذاته في قادم الأيام.

صعلكة..

يطيب للشعراء المختلفين تلك الأيام أن يجاروا حالةً كان عليها شعراء الجاهلية من الصعاليك، لا سيما الأجواء التي يعيشونها تأثراً بشخصيات كانت لدى مبدعينا من عالم آخر، فما الذي يقابل (هاري هرمان هيسى) في ذئب البوادي، و(الهذيان) المفتوح لدى هنري ميلر؟.

ربما لأجل الاختلاف وحده، يتصعلك شعراء، وتتصعلك نصوصهم، لتتسول في طرقات الحياة التفاتة معنى، وتصفيق تراكيب، وانتباهة قارئ، يروقه تماماً أن تكون أسمال القصيدة وبر الصبار، ما الذي يمنع من أن تكون أسمالها أوراق الورد، وقمصان الياسمين، لعلها مخيلة ضد المخيلة، ولعلنا أقل قدرة على أن نأتي بالاختلاف من أجل الاختلاف فحسب.

العدد 1107 - 22/5/2024