من الصحافة العربية العدد 681

الدروز ومقاومة الإرهاب التكفيري

لقد تصدّى القضاء العسكري اللبناني للإرهاب التكفيري منذ سنوات عديدة، وعلى أكمل وجه وبلغة قانونية صارمة، وقبل أن يتصدّر واجهة الأحداث على الساحة السياسية العربية ويصبح مكمن ملاحقة بعض الدول في العلن، ومدعوماً من بعضها الآخر في السرّ.

واستطاع هذا القضاء في السنوات الخمس عشرة الماضية، أن يسطّر بحق مسؤولي وأعضاء التنظيمات الإرهابية باختلاف تسمياتها وفروعها، جملة قرارات وأحكام كان لها الصدى الكبير على صعيد تحصين الداخل اللبناني، (وهو الأهم والغاية المتوخاة)، وإراحة الوضع الأمني، وطمأنة الناس إلى أن سطوة العدالة فوق كل اعتبار، ولن تترك أحداً يعتدي على الوطن والمواطن، مهما كانت الظروف صعبة وبالغة الحساسية.

وأثبتت مجريات الأحداث السياسية في موضوع الإرهاب التكفيري أن ما سبق لتحقيقات القضاء اللبناني، وبعضها قمت به شخصياً بحكم منصبي كقاضي تحقيق عسكري أول ومحقق عدلي، كان مصيباً وصحيحاً، خصوصاً لجهة الإضاءة على الخطر الآتي من وراء هذه الجماعات التي تتسلح بالدين لتحقيق مآرب ضد الدين والإنسانية.

ففي قراري الاتهامي في جريمة عين علق التي ارتكبها تنظيم (فتح الإسلام) في العام ،2007 تحدثت عن التحول الحاصل في عالمنا العربي و (تبدّل الخطاب من المناخ القومي، أو التقدمي، أو الوطني، أو الحضاري، أو الثقافي، إلى المناخ الإسلامي والجهادي والشرعي والفقهي، وبدلاً من الأحزاب العلمانية، أو القومية، أو العقلانية، نشأت حركات وتنظيمات تسوّغ قتل الأرض باسم السماء، وتصفية المدنيين باسم الدين، وتعتقل الجنّة، لأهل العنف وحدهم من دون الآخرين. وأطل على الناس المعتدلين والمؤمنين ومحبّي الحياة، والحريصين على كرامة الإنسان، جيل، بل أجيال من الانتحاريين المجرمين، المخدّرين، ففجروا ودمّروا وذبحوا وعذّبوا واعتقلوا وحاكموا وأبادوا عائلات وجماعات باسم الشرائع والدين. ولم يسلم لبنان من هذه الظاهرة…).

كما أن دولاً عربية شقيقة لم تنج من فخ الوقوع أسيرة الحروب التكفيرية تحت مسميات لا تمت إلى الحرية بصلة، على ما أظهرت الأيام، فهذا ما حصل في مصر العروبة والعراق واليمن وسورية، حيث تنتشر رائحة الموت المجاني، وتقترف الجرائم باسم الإسلام الذي يحضّ على التسامح والمغفرة والمحبة، لا العنف والإبادة. وكلّها تصرفات تستحق المحاكمة من أجل إقامة العدل على وجه الأرض، كما أنها تستدعي حلولاً جذرية من الدول الكبرى لمنع تفاقمها، وتضامن الشعوب العربية لمواجهتها قبل أن تستبيح كل شيء.

ولا يسعني هنا، إلا أن أثني على مبادرة عدد من السياسيين لحماية إخواننا الدروز في سورية بعد المجزرة التي ارتكبتها (جبهة النصرة) بحقهم في بلدة (قلب اللوزة) في ريف إدلب حيث استشهد أكثر من أربعين شخصاً، على أمل أن تنجح هذه التحركات في حقن الدماء، وتصون البشر والحجر، وتحافظ على الأقليات، وشعوب المنطقة وتاريخها الحضاري، ولا تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه من عنف وذبح وتهجير، بغية رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط والعالم العربي الذي لم يشبع من التشتت والضياع.

ولم تنفع كل التطمينات من عدم تكرار ما حدث في العراق من إبادة بحق الأقليات، مع إخواننا الموحدين الدروز في سورية، مع العلم أن الدروز، على مر التاريخ، كانوا دعاة خير ومحبة وحريات وإصلاحات وبناة أوطان، وحملوا السلاح في وجه المعتدي، وناصروا إخوانهم في الدين الإسلامي ضد الغزاة والمحتلين والاستعمار والتدخلات الأجنبية الباعثة على الفتنة. وهذا ما فعله الدروز مع صلاح الدين الأيوبي فقاتلوا معه، كما قاتلوا قبله وبعده، والتاريخ يحفظ لهم الجميل بأنهم كانوا مؤيدين لكل الثورات العربية التي كانت تظهر على الساحة.

ولا شك بأن عدو الأمة العربية عدو للدروز أينما كان، وأينما وصل. والإرهاب التكفيري هو عدوّ لهم، ولا يمكنهم إلا أن يقفوا في وجهه، خصوصاً أنه زُرع في منطقتنا من أجل تفتيتها وتقسيمها، وإعادتها سنوات إلى الوراء، إلى عصور التحجّر والتخلّف، فيما الشعوب الأخرى تواظب على تقدمها ونهضتها، وتبذل الغالي والرخيص في سبيل المحافظة عليها.

إن ما يشد الانتباه ويستوجب الحذر منه هو أن (الإسلام السياسي) يسيطر على مسرح الثورات العربية باعتباره الجهة الأكثر تنظيماً وفاعلية، وأن شرعيته شعبية، وأنه يغرف من الثقافة السائدة، ويستمد أخلاقياته من (الفرائض)، لا من قيم إنسانية كبرى انتهجها العقل البشري كالعدل والحرية والمساواة ولا طبعاً التنظيم الاجتماعي القائم على المشاركة، ولا العلاقة السوية مع الطبيعة والبيئة، ولا التداول الدائم للسلطة والديموقراطية.

ولا يقبل الإسلام السياسي مفهوم السيادة الشعبية، وأن الشعب هو مصدر السلطات، ولذلك فالحكم في الإسلام السياسي هو لأوامر ونيات مسبقة، وحدوده قواعد وأحكام شرعية، أي دينية.

إن السياسيين المسلمين لم يقولوا بعد كلمتهم الأخيرة، ويحاولون توخي الحذر في تحركاتهم، وبذلك يربحون على المدى القصير، تأييد الكثير من القلوب والعقول، قبل أن يبدأوا بعد حين بخسارة صدقيتهم لدى الجيل الجديد.

وأصبحت الحركات الإسلامية المعاصرة مرادفة لحركات سياسية تطلب السلطة وتسعى إليها وتطرح نفسها كبديل شامل من القوى الأخرى، ويتجلّى هذا السعي في لبنان وخصوصيته الطائفية بتعددها، وذلك عبر توسل طرق عدة، تبدأ بالدعوة السلمية، وتنتهي باستخدام العنف وتكفير السلطة وإعلان الجهاد في الداخل.

وصحيح أن مليون مصري قد تظاهروا في وطنهم، لكن آخرين احتشدوا في المساجد، وهذا هو الشارع الصامت الحقيقي الذي هدد بالاستيلاء على السلطة، مستفيداً من الفوارق الاجتماعية الهائلة ومئات آلاف العاطلين من العمل الذين وجدوا الدين ملجأهم.

ويفيد القول إن السلفيين ليسوا على منهج واحد، فلهم اجتهادات عدة، ولو أن الانطباع السائد عنهم أنهم (جهاديون) يقاتلون ويكفّرون خصومهم، ويمارسون العنف الذي يجعلهم أداة للسلطة الدينية ولمؤسساتها، ولذلك فهم يسعون إلى تغيير المجتمع، لا إلى تغيير الحكم.

كما أن بيئة السلفيين الاجتماعية هي الشرائح الأكثر فقراً، بعكس الإسلاميين الآخرين المنتشرين في الأوساط الاجتماعية كلها، وحتى في النخب الاقتصادية. لكن يجب على الإسلاميين المعتدلين التحرك بأقصى سرعة لئلا تفلت الأمور من أيديهم، ويصبحوا على ما تجاهلوه، نادمين.

رشيد مزهر

 (السفير، 24/6/2015)

العدد 1105 - 01/5/2024