الإرهاب يضرب قلب فرنسا… هل هي «اللعنة» السورية؟

وسط الصدمة والذهول اللذين أصابا الفرنسيين وأمتدا سريعاً إلى باقي دول العالم، نُكست الأعلام الفرنسية ولبست باريس ثوب الحداد على ضحايا مجزرة (شارلي إيبدو) الصحيفة الباريسية الساخرة التي تعرضت لهجوم إرهابي يوم الأربعاء الموافق لـ 7 كانون الثاني 2015 قام به متطرفون بحجة الانتقام والثأر للإسلام بعد أن نشرت الصحيفة عدة رسوم كاريكاتيرية مست مشاعر المسلمين حول العالم.

هذا الهجوم الذي يعتبر الأول من نوعه منذ نحو الأربعين عاماً في فرنسا أحدث صدمة قوية في الرأي العام العالمي وإرباكاً وقلقاً في أوساط الجاليات المسلمة حول العالم خوفاً من إمكانية تعرضهم لهجمات انتقامية في أوربا خصوصاً. ذلك أن هذه العملية الإرهابية جاءت في وقت بدأ فيه اليمين المتطرف في القارة العجوز يحذر مما يعتبره (أسلمة أوربا).

وكأن الأقدار شاءت أن تمتزج دماء الأبرياء من المهاجرين العرب والفرنسيين، من جميع الأديان السماوية، في موجة الإرهاب الذي ضربت فرنسا، فكان أول ضحاياها الشرطي (أحمد مرابط) الذي قُتِلَ بدمٍ بارد وهو يتوسل القتلة الإرهابيين للإبقاء على حياته، أما الثاني فهو المدقق اللغوي في الجريدة (مصطفى أوراد) الذي هاجر يتيماً من الجزائر ليرتقي شهيداً في باريس، إضافة إلى أربع ضحايا سقطوا في حادث إطلاق نار منفصل في متجر للأغذية اليهودية، ويشتبه أن منفذه على علاقة بهجوم (شارلي ايبدو).

هذه المأساة تدعونا جميعاً إلى التأمل واستخلاص العبر منها، فالإمبريالية الغربية والرأسمالية العالمية التي تحالفت مع الرجعية العربية ممثلة بالحركة الوهابية السعودية لضرب حركة التحرر في الوطن العربي في العقدين الخامس والسادس من القرن المنصرم، مروراً بِـ(نادي سفاري) الذي أُسِسَ لضرب الفكر التقدمي في إفريقيا، وصولاً إلى دعم وتدريب (المجاهدين) في أفغانستان لمحاربة (الغزو السوفييتي) لها أنتج تنظيم القاعدة، الذي نتج عن تزاوج الفكر الوهابي وتعاليم الإخوان المسلمين، وشن هجوم 11 أيلول 2001 على الولايات المتحدة. وكان من تداعياته تدمير أفغانستان والعراق وتشريد سكانهما وقتل مئات الألوف من الأبرياء بلا سبب. لنرى أن الوحش الذي أسهم الجميع في تنشئته وتغذيته انقلب عليهم وهاجمهم، وكان حالهم كحال مجير أم عامر (الضبع) الذي افترس البدوي الذي رباه ورعاه، حسب الموروث الشعبي العربي.

أما العبرة الثانية فهي، ضرورة احترام حرية الفكر والتعبير، ومراعاة ثقافات ونمط تفكير جميع سكان المعمورة، وضرورة دراسة ردود الفعل على أي موقف أو تصرف كان من جميع الأطراف قبل الإقدام عليه. فلا شك أن نشر رسوم كاريكاتورية تُعتبر مسيئة أو مهينة بحق رموز ديانة ما أو كتاب يهاجمها هو عمل مستفز، لكن الرد عليه يكون ضمن المنظومة القيمية والفكرية للذين نشروه. وذلك بالعمل على التخلص من التعاليم البالية ومحاربة الفكر المنحرف لهذا الدين أو المذهب وتقديم صورة مشرقة له، أما أن يتم ذلك بإصدار فتوى تجيز القتل وتحلله، أو توجيه تهديدات مبطنة لهذه الدولة أو تلك، فلن يفيد ذلك إلا في نشر هذه الرسوم وذلك الكتاب على نطاق أوسع، وإظهار أصحابه بأنهم رموز الحرية والكلمة الحرة في العالم.

أخيراً، ضرورة مراعاة مشاعر ذوي الضحايا في أي عمل إرهابي حتى ولو وقعت في دول تناصبنا حكوماتها العداء. فبعض ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي تعقيباً على هذا الحادث الأليم أتت بما لا تمت للإنسانية بصلة، ولا تعبر عن أخلاقنا وتعاليمنا، وقد تسيء لقضايانا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

(غزوة باريس) أو ما باتت الصحافة العالمية تسميها (11 أيلول الثانية) هي نتيجة تغاضي المجتمع الدولي عن النداءات المتكررة التي أطلقتها الحكومة السورية منذ ثمانينيات القرن المنصرم وحتى الآن حول ضرورة عقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب، بعد أن ذاق المواطن السوري مُرِّ الإخوان المسلمين وعلقم الذئاب (داعش والنصرة) البشرية التي تسرح وتمرح في ربوع بلاد الشام منذ (عواصف الربيع العربي). فمنذ اندلاع الأزمة السورية كانت باريس ولا تزال تنسق جهودها مع العثمانيين الجدد في أنقرة لتدمير سورية وتقسيمها بهدف تحقيق مطامعهما الاستعمارية القديمة في المنطقة، وفي سبيل ذلك قدما كل التسهيلات والدعم اللازم من سلاح وكساء ومنابر إعلامية للجماعات الإرهابية التي تقاتل الجيش العربي السوري. وكانت نتيجة ذلك أن قامت هذه الوحوش البشرية بقتل وتشريد المواطنين الأبرياء، وسبت واغتصبت الفتيات والنساء، ودمرت وسرقت تاريخ وحضارة سورية. وتغاضت عن الفكر المنحرف الذي تشكل في هذه الفوضى، بحجة أن عدو عدوي هو صديقي، لتكتوي بناره في النهاية.

وترافقت هذه المجزرة، التي نفذت بحرفية عالية المستوى تدل على وقوف جهاز مخابرات ما وراءها، وسط دخول فرنسا في نشاطات سياسية وعسكرية، من تدخلها في الساحل الإفريقي لمواجهة التكفيريين إلى مشاركتها في الحرب على (داعش)، إلى دورها في مفاوضات (5+1) حول الملف النووي الإيراني، وصولاً إلى دعوة مجلس النواب الفرنسي إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية واعترافه سابقاً بالإبادة الأرمنية بالإضافة إلى تصويتها في مجلس الأمن إلى جانب مشروع القرار الفلسطيني إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والذي فشل في الحصول على الأكثرية. ومن هذا المنطلق فإن باريس مدعوة إلى التريث قبل توجيه الاتهامات وسلوك الدرب الأمريكي بعد أحداث 11 أيلول 2001 فالمتضررون من السياسة الفرنسية كثر وهذه الجماعات هي صندوق البريد الأمثل لإرسال رسائل التهديد والإنذار.

إن الإرهاب لا دين له، وهو لا يميز بين شخص وآخر، وهدفه الأول والأخير تحقيق أهدافه ونيل غاياته بطرق وحشية ودموية عن طريق نشر الفوضى والرعب في جميع الأماكن التي يطولها. والدولة التي تستخدم هذه الجماعات لتحقيق أهداف سياسية وتحقيق مكاسب استراتيجية ستكتوي بنارها في نهاية المطاف، وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي رعت ودعمت ودربت المجاهدين العرب في أفغانستان، وأسمتهم (المقاتلين من أجل الحرية) في عهد رونالد ريغن، ثم أصبحوا برابرة وإرهابيين في عهد جورج بوش الابن بعد (غزوتي) نيويورك وواشنطن عام 2001.

العدد 1104 - 24/4/2024