هل تنشب مواجهة بين واشنطن وموسكو؟

لا يمكن للولايات المتحدة أن تخرج من جلدها الأساسي مهما تلونت مظاهر سياساتها وإجراءاتها، فاستراتيجيتها البعيدة المدى تقوم على قهر الشعوب واستغلالها من خلال مصادرة إرادتها ونهب خيراتها والهيمنة على قراراها الوطني المستقل، إذ إن تاريخها الحافل بالحروب وإثارة النزعات وخلق بؤر التوتر معروف للجميع.

فمنذ أن استعادت روسيا عافيتها على يد الرئيس فلاديمير بوتين، ازداد قلق واشنطن، لأنها لا تريد لأحد أن ينافسها في السيطرة على العالم والانفراد بقيادته.

في الآونة الأخيرة قالت صحيفة (نيويورك تايمز) تحت عنوان رئيسي لها (إن الولايات المتحدة تستعد لوضع أسلحة ثقيلة في أوربا الشرقية كرسالة إلى روسيا).

ومضت الصحيفة قائلة: في خطوة مهمة لردع عدوان روسي محتمل في أوربا، تستعد وزارة الدفاع الأمريكية لتخزين دبابات وعربات قتالية للمشاركة وأسلحة ثقيلة، لما يبلغ 5 آلاف جندي أمريكي في العديد من دول بحر البلطيق وأوربا الشرقية)، ونسبت الصحيفة هذه التصريحات الاستفزازية إلى مسؤولين أمريكيين وحلفاء.. إلا أن البنتاغون الأمريكي تلقى في 16 حزيران الماضي رسالة روسية جاءت على لسان الجنرال الروسي يوري يعقوبوف، وصف فيها الخطوة الأمريكية بأنها (الخطوة الأشد عدوانية من جانب البنتاغون وحلف الأطلسي منذ الحرب الباردة). وقال يعقوبوف: (عندما تكتشف موسكو أسلحة ثقيلة تنقل إلى بحر البلطيق، فإن روسيا سوف تعزز قواتها ومواردها في المسرح الاستراتيجي الغربي للعمليات، وعلى وجه التحديد سوف تجهز موسكو لواء صواريخها في كالينيغراد على الحدود مع لتوانيا وبولندا، بمنظومات جديدة من صواريخ إسكندر التكتيكية، وهذه الصواريخ قادرة على إطلاق رؤوس حربية نووية).

ومن الجدير بالذكر أن وزارة الدفاع الأمريكية والكونغرس يعتقدان بأن الرئيس فلاديمير بوتين شخص مخادع، وأنه إذا ما تمت مواجهته بصلابة من قبل الولايات المتحدة فسوف يرعوي ويتراجع.

ويعتزم السيناتور جون ماكين تقديم مشروع قانون إلى الكونغرس يسمح بتزويد أوكرانيا بأسلحة مضادة للدروع، ومدافع هاون، وقاذفات قنابل وذخائر فتاكة، إضافة إلى أسلحة هجومية أخرى.

وسوف يصوّت الكونغرس على إعطاء سلطات كييف المدعومة أمريكياً وغربياً الضوء الأخضر والأسلحة، لمحاولة الاستيلاء على دونيتسك ولوهانسك المواليتين لروسيا، والمنشقتين عن أوكرانيا، والقرم التي استعادتها روسيا.

وهكذا إذا كانت البنتاغون سينقل فعلاً قوات أمريكية وأسلحة ثقيلة إلى بولندا ودول البلطيق، وعلى وشك توفير الأسلحة لسلطات كييف التي اغتصبت السلطة بدعم أمريكي وغربي، فإن ذلك كله سيؤدي إلى مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وروسيا لم يشهد مثلها منذ الحرب الباردة.

جدير بالذكر هنا أن نتائج المواجهات السابقة بين الطرفين معروفة للجميع، فإذا كان خروتشوف هو الذي تراجع في أزمة الصواريخ الكوبية، فإن الرئيس الأمريكي أيزنهاور لم يفعل شيئاً لوقف عملية سحق المتمردين الهنغاريين، وتقبل الرئيس كنيدي جدار برلين، ورفض ليندون جونسون أن يحرك ساكناً لإنقاذ التشيك عندما تم إخماد ما يسمى (ربيعهم) بأرتال دبابات حلف وارسو في ذلك الوقت. أما الرئيس ريغان فقد كان رده على سحق حركة (تضامن) بالكلام فقط، لا بالعمل العسكري. بمعنى آخر وأكثر وضوحاً، تراجع أولئك الرؤساء الأمريكيون ورضخوا، لا بدافع الحرص على السلام، ولكن بسبب قناعاتهم بأن أي تحد عسكري لموسكو من جهة الجانب الآخر من الخط الأحمر لحلف شمال الأطلسي في ألمانيا، يحمل في طياته خطر نشوب حرب مفجعة وخاسرة لأسباب لا تبرر الأخطار المزعومة.

إلى جانب ذلك، يؤكد خبراء عسكريون أمريكيون أن الولايات المتحدة من خلال ممارساتها في دول البلطيق وأوكرانيا، تجازف بتصادم مع روسيا هناك، علماً بأنه لا توجد للولايات المتحدة في يوم من الأيام مصالح حيوية هناك، علاوة على أن روسيا الاتحادية تتمتع بتفوق ملحوظ من الناحية العسكرية.

وقد أكد هذا الأمر (لس غليب) عندما كتب في مجلة (ناشيونال إنترست) قائلاً: (إن يد الغرب الرخوة في بحر البلطيق وتفوق روسيا العسكري على حلف شمال الأطلسي على حدودها الغربية باديان للعيان للجميع على نحو مؤلم، وإذا رفع حلف شمال الأطلسي من قيمة الرهان العسكري، فإن روسيا بوسعها أن تكسبه بسهولة، فموسكو تتمتع بميزات جوهرية في القوات التقليدية المدعومة بأسلحة تكتيكية قوية، وبرغبة معلنة في استخدامها للحفاظ على المزايا أو تجنب الهزيمة، وآخر ما يريده حلف شمال الأطلسي هو الظهور بمظهر الضعف أو الخسارة في المواجهة).

ويمضي (غليب) قائلاً: (وخسارة حلف شمال الأطلسي لأية مواجهة من هذا القبيل، هي النتيجة (المرجحة) للتصادم الذي يحرض عليه البنتاغون وجون ماكين، لأنه إذا تحركت كييف بالأسلحة الأمريكية في شرق أوكرانيا، وأرسلت موسكو الطائرات والدبابات والمدفعية، فسوف تُحيق الهزيمة بكييف، فماذا نفعل عندئذ؟ هل نرسل حاملات الطائرات إلى بحر البلطيق لمهاجمة الأسطول الروسي في (سيفاستبول)، ونحارب الصواريخ الروسية وغاراتها الجوية؟.. قبل أن تُجدول واشنطن مواجهة بين حلف الأطلسي وروسيا، خير لها أن تنظر خلفها لترى من يتبع خطوات أمريكا).

باختصار يتأهب صقور واشنطن من أمثال جون ماكين، زاعمين أنهم سيظهرون لبوتين من هو الحازم فعلاً على حد قولهم، متجاهلين أن وراءهم تقف أمة أمريكية منقسمة على نفسها ومتباينة آراؤها في هذا المجال، بل تقف الأغلبية من الأمريكيين ضد أي صدام مع روسيا، بمعنى آخر ليس لدى هذه الأغلبية رغبة في خوض هذه المواجهة، وهذا ما أكدته دراسة حديثة للرأي العام أجراها مركز (بو) في إطار (مشروع المواقف العالمية). وخلافاً لأزمة صواريخ كوبا المعروفة في الستينيات من القرن الماضي، فإن روسيا هي التي تتمتع بتفوق عسكري إقليمي، كما أن زعيمها الرئيس بوتين مستعد لركوب السلّم المتحرك الصاعد، بسبب التصعيد الأمريكي ضد بلاده. وبالتأكيد في أية مواجهة عسكرية مباشرة قد تحصل بين أمريكا وروسيا، فإن أمريكا وحلفاءها سيكونون الخاسرين.

العدد 1105 - 01/5/2024