كان الحمام يطير محترقاً

نهضت قطعة طباشير في الصف، وقفت أمام الكرسي، قالت: سأغدو معلماً، رفع كرسي يده، سأل: عمَّ يتحدث درسنا؟ حكّتْ قطعة الطباشير رأسها بالسبورة، تساقطت أحرف بيضاء، تجمعت، ثمَّ هتفت: عاش الحمام، عاشت الأنهار، عاشت القطط، عاشت الأشجار، عاشت أختي وأخي، ولتسقط الدبابة!

(الشاعر شيركو بيكه سه)

(1)

يجوز أن تختلف الأديان في طرق العبادة، ويجوز أن تختلف الصلوات من مذهب إلى أخر، ويجوز أن تتناقض أشكال الإيمان من كتاب إلى آخر، ويجوز الاختلاف بين القرآن والإنجيل والتوراة اسماً وكتاباً واعتناقاً. لكن المقدسات تتساوى في جميع الأديان من حيث قيمتها ومكانتها المقدسة. ففي كل حروب العالم، الضارية والوحشية، العادلة والظالمة، القديمة والحديثة، ظلَّ نور دور العبادة أقوى من شرارة القذيفة، وطغى وهج الإيمان في المقدسات على ألوان الحروب القاتمة. كانت تقوم القيامة إذا ما انتهكت حرمة دار عبادة. حتى في زمن الكفار والوثنيين اُحترمت بيوت الدين على اختلاف أنماطها. فأنت ترى إلى اليوم في المدن الأثرية المنسية في الشمال السوري صروحاً وثنية قائمة ما تزال من آلاف السنين، وإن زال البعض منها، فقد بقيت قيمها حيَّة في قلوب الناس. فأهل الإيمان من كل الملل والنحل كانوا يشعلون الشموع للتكفير عن ذنوب ما، أو لتحقيق أمنية، ويمشون حفاة إذا ما تحقق النذر، ويوزعون الخبز على الفقراء والمساكين وأهل السبيل إذا نزلت بهم نازلة. وكانوا من خلال هذه الأشياء الرقيقة البسيطة الناعمة والعميقة يستثيرون الهمم كي تكون حياة الإنسان في هذه الدُّنيا أكثر عدلاً، وأوفر سلاماً، وأقرب رشداً. ولكن الإنسان هو الإنسان، يهتدي ويضلّ، ويسعد ويشقى، ويصيب ويخطئ، وإنَّ أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلاً في الحروب، وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيها بطلاً حقيقياً. ما لون هذه النازلة التي ابتليت بها بلدنا؟  وأين هي الشريعة التي أوصت بما حدث ويحدث وسوف يحدث؟ ما هو الكتاب المقدَّس الذي تنبأ بما حصل ويحصل وسوف يحصل؟ ماذا سيكتب التاريخ عنَا؟ يا كاتب التاريخ ترفق بنا فنحن عُصاة. كنائس ومساجد شملتها الحرب، وجنَّ الرصاص في أرجائها، فكان الناس يُذبحون على أبوابها، وكان الحمام يطير محترقاً في سماء صحونها. سكت صوت الجرس والمئذنة، وعلا صوت الكفر في بيوت الدين.

(2)

انظر بعينيك إلى ما أصاب المسجد الأموي في حلب، وما أصابه؟ وتسأل ما أصابه؟ لم يخلق الله وحوشاً كالبشر، ولم يخلق البشر وحوشاً كالحروب، فقد ناهز عمر هذا المسجد أكثر من ألف ومئتي عام. ومرَّت على أبوابه محن شداد، فأحجاره تحكي تاريخ المدينة، ومع تلك القامة الشامخة فتك الوحوش بأحجاره. بماذا كان يفكر سليمان بن عبد الملك حين بناه، وتأنق في بنائه؟ هل ليضاهي ما عمله أخوه الوليد في الجامع الأموي في دمشق؟ فإذا عرفنا أن المسجد الأموي الكبير في دمشق قد تم العمل فيه سنة 96من الهجرة، قدَّرنا أن مسجد حلب قد بُني في نهاية القرن الأول، أو في السنوات الأولى من القرن الثاني الهجري. يُحكى بأن منارته كانت أجمل منارة في مدينة حلب، كانت؟ نعم كانت، فقد بناها أبو الحسن محمد بن يحيى الخشاب قاضي المدينة سنة 1090 ميلادية. كتبت ليلى السيد وهي من أهل حلب الشهباء عن منارة الجامع الأموي تقول: ترتفع مئذنة الجامع الأموي الكبير في وسط مدينة حلب القديمة، وتتوضع في الركن الشمالي الغربي من صحن الجامع، وتقع على قاعدة مربعة الشكل، طول ضلعها خمسة أمتار تنقص سنتيمترات، ويبلغ ارتفاعها 45 متراً، وتضم سلماً حجرياً يتكون من 174 درجة، وتحيط ببدنها الباسق أربعة أدوار من الكتابة الكوفية البديعة، تقسمه بعد ركن القاعدة إلى أربعة أقسام متساوية، يزدان القسمان العلويان منها بحنيات زخرفية، ويتخلل كل حنية منها نافذة مدورة أو مربعة، وينتهي القسم الرابع أعلى الأقسام جميعها بدورين يشكلان بروزاً عن مستوى البدن لتكون عليه شرفات المؤذن، وتكون قاعدة الجوسق الذي يحمل قوس المئذنة.

نعم، مرت أيام عصيبة على هذا المسجد، بل قُل كوارث، فقد نقض بنو العباس ما كان فيه من الزخارف والآلات، ونقلوها إلى جامع الأنبار في العراق، ثم أحرقه الرومان حين دخلوا حلب سنة 315 من الهجرة، ثم أُحرق مرة ثانية في زمن نور الدين زنكي، وأحرقه التتار أيضاً سنة 658 من الهجرة. وكان الفضل في إعادة بنائه في هذه المرات إلى سيف الدولة الحمداني صاحب حلب، وابنه أبي المعالي، وإلى نور الدين زنكي الذي زاد فيه من الجهة الشرقية حين ضم إليه سوق البزر وجعله أقرب إلى التربيع، وإلى الملك الظاهر، والملك المنصور قلاوون وفيه تجديدات تمت في العهد العثماني، وفي أوائل القرن العشرين. وكذلك تم تجديد الباب الشمالي والواجهة الشمالية الخارجية وأقيمت أمامه حديقة واسعة في أواخر عام 1953. وكانت آخر أعمال الترميم في المئذنة عام2010 التي كانت أجمل منارات حلب . وتلفّت التاريخ لي باكياً، فقلت: يا كاتب التاريخ مهلاً، الكل مروا من هنا، الكافر والمؤمن، الظالم والعادل، الفقير والغني، ورغم تتابع النكبات يجد الحمام دربه دائماً ليحط على ما تبقى من أحجار المسجد الأموي في حلب.

العدد 1105 - 01/5/2024