تلوّث النفوس يؤدي إلى تلوّث دروبها

يُشكّل التلوّث البيئي أزمة في معظم دول العالم، وقد أوجد العقل البشري الكثير من الأدوات والطرائق والتقنيات لضبط ذلك التلوّث، وهناك الكثير من الجمعيات التي نشطت في العديد من دول العالم وعَرّفتْ الناس بمخاطر التلوث.. ولكن المشكلة الحقيقية ليست في عدم امتلاكنا لأدوات تحدُّ حداً كبيراً من التلوّث، وليست أزمة معرفية بمخاطره أيضاً.. إن جوهر المشكلة هو تواطؤ كبار الصناعيين والتّجار مع أهل السلطة والقرار.. فجورج بوش الابن على سبيل المثال قام فور تسلمه للسلطة بنسف مشروع قرار يفرض على المصانع وضع فلاتر إضافية على مداخنها وخاصة المداخن العملاقة.. ولعل لجوء قادة القرار إلى صرف أنظار شعوبهم بحروب خارجية مازالت جزءاً من العقلية التي ورثتها الولايات المتحدة الأمريكية عن الإمبريالية الأوربية بُعيد دخولها الحرب العالمية الثانية.

وبالنسبة للدول النامية المشهورة بفساد أنظمتها فالأمر سيّان، ذلك أن أصحاب السلطة ليسوا في حاجة لمن يموّل حملاتهم الانتخابية (شكلانية كانت أم حقيقية) كما هو الحال لدى جورج بوش الابن.. لكن معظم المسؤولين الكبار في الدول النامية، كما لا يخفى على أحد، سياسيون علناً تُجّار وراء الكواليس.. وأنا شخصياً سمعت العديد من المسؤولين الذين ترهقهم كروشهم الضخمة وتكاد الدهون تنزُّ من مسامات وجوههم المدورة وأجسادهم المكتنزة يتحدثون عن أيام صباهم وكيف كانوا يسيرون عدة كيلو مترات كي يرتادوا المدارس وكيف كانوا يدهنون الخبر بالزيت فقط والكثير الكثير من تفاصيل حياة الفقر المدقع، واليوم هم من الأثرياء بعد أن باتوا في موقع القرار.. ذلك إما أنهم يُسخّرون المناصب لتجارة لهم أو لتجّارٍ اشتروهم.

إن التاجر والصناعي غير معني سوى بالأرقام، وأي قوانين تفرض عليه شراء تقنيات تحدُّ من التلوّث واستخدامها هي نفقات إضافية، و(الفهلوي)هو من يجيد التهرّب منها.

وإذا أردنا الحديث عن سورية تحديداً، فهناك مخلفات حرب غير قابلة للاستصلاح، ذلك أن المدن والقرى المهجورة ليست أقل بكثير من المدن والقرى المأهولة.. وبالحل السياسي والسلمي يمكن إعادة الحياة والنظافة إلى تلك المناطق. ولا شكَّ أن التلوّث قد ازداد كثيراً في ظل هذه الحرب لأن أدوات الحرب، هي كل ما من شأنه القضاء على الحياة، وآخر ما يلتفت إليه المتحاربون عادة هو آثار الوسائط النارية على البيئة والأحياء. ونضيف إلى ذلك اكتظاظ المدن السورية الأكثر أمناً بالمركبات التي كانت منتشرة في الأرياف، والناظر إلى دمشق من قاسيون يجد غلالة من الدخان تعتلي أفق المدينة.

وإذا ما أردنا الحديث عن النظافة بأبسط أشكالها(نظافة الشوارع) فمناطق العشوائيات في جميع أنحاء العالم قذرة الشوارع والأزقة، ذلك أن أصحاب القرار والرأسماليين يدركون أن توسع المدن الكبرى سيكون على حساب العشوائيات التي تحاصرها.. لذلك يهملون النظافة والكثير من الجوانب الخدمية الأخرى.. فهم ينقلون ضباط الشرطة (المغضوب عليهم) إلى أقسام الشرطة في العشوائيات على سبيل المثال لا الحصر، ولعل الغاية هي إبقاء العشوائيات وسكانها في نظر المجتمع أمكنة غير حضارية خطرة يجب التخلص منها، وبالتالي عندما يأتي الوقت المناسب لأصحاب المال وأصحاب القرار يتمُّ تجريفها بمباركة المجتمع وبأقل درجات التعاطف الإنساني مع قاطنيها، ويتمُّ تعويض هؤلاء الكادحين بمبالغ تافهة، لتحويلها لاحقاً إلى مزارع تنمو فيها أبراج الرأسمالية وتزدهر مشاريعها.

أما إذا أردنا الحديث عن العشوائيات في سورية، فأنا شخصياً سمعت من أصدقاء كُثُر عن سرقة بعض سكان تلك المناطق العشوائية لسلال المهملات التي وضعتها البلدية في الشوارع هناك.. ورغم أن البلدية غيرت نوعية السلال وطرائق تثبيتها إلاّ أنها ظلّت تتعرض للسرقة أو التخريب.

واليوم وسط وجود الكثير من القاطنين بشكل مؤقت(المستأجرين) في معظم الأحياء السورية والكثير من المتشردين.. لن يتعامل هؤلاء مع الحواري والأزقة بحرص على نظافتها وسلامة معالمها كما هو حال ابن الحي الذي نشأ وترعرع فيه منذ طفولته. وأستثني من مجمل ما سبق أولئك الذين تربوا في أسرهم منذ الصغر على النظافة ونشرها أينما حلوا.

العدد 1105 - 01/5/2024