برجك اليوم… أنت ضحية مستمرة

لغز الخلود شغل الإنسان من جلجامش إلى الفراعنة إلى آخر طاغية تصرف وكأنه خالد إلى أبد الدهر، وربما كان الخلود في جنّات النعيم هو الموازي الإسلامي لفكرة الخلود الدنيوي التي اشتغلت عليها الأساطير والأقوام البائدة.

الخلود هنا لغزٌ مستحيل يحمل في كثير من جوانبه فضول الإنسان للمزيد من المعرفة بالعيش الأبدي واكتشاف ما تخبئه السنون والقرون والتجارب الفردية والجماعية.

إنه الفضول ذاته ما يدفع الإنسان إلى قراءة الكف والاستماع إلى (البصارات) و(البراجات) رغم علمه أو علم معظم من يلجؤون إلى ذلك بكذبها واعتمادها على مهارة المتنبئ وموهبته اللفظية في إقناع (الضحية) بأن ما يقوله هو حقائق قادمة لا ريب فيها.

كلنا نعيش حالات نأنس فيها إلى طمأنينة كاذبة تهدئ أرواحنا القلقة، فنلوذ بتنبؤات ماغي فرح أو مايك فغالي الذي يستثمر موهبته في السياسة أكثر من المتنبئين الآخرين بتقديمه وجبات شهية وجاهزة لجمهور طرف سياسي في الصراع الدائر هنا أو هناك، ليزيد في شحنه بمزيد من المورفين اللازم لإكمال تقديم القرابين البشرية والمادية من أجل حروب لا ناقة له فيها ولا جمل.

ويصل الأمر بمايك وغيره أن يتنبأ بمستقبل شخص أو عائلة من نبرة صوته من خلال الهاتف!! طبعاً مع إطالة المكالمة الهاتفية قدر الإمكان لتحقيق الغاية المرجوّة من برامج القنوات التي تستضيفه أو تستضيف أمثاله، وهي تجارية بحتة طبعاً تتعلق بالإعلانات وبالاتفاقات مع شركات الاتصال التي تعتبر شريكاً أساسياً في هذه البرامج.

أدعي إن جميع المجتمعات المتقدمة منها والمتخلفة تشهد إقبالاً على سماع الأبراج وقراءة الكف والطالع بنسب متفاوتة، فالمجتمع الرأسمالي الذي حقق للفرد في بلدانه المتطورة مستوى معيشياً جيداً، وخدمات اجتماعية ممتازة، ومنظومة حقوق إنسان وشبكات ضمان… الخ، لم يستطع تحرير الفرد من الاستلاب والقلق والخواء، مما يخلق الحاجة إلى هذه (الأدوية) المسكِّنة، كما المخدرات والكحول وغيرها.

لكن في مجتمعات متخلفة تعيش أزمات حادة على جميع المستويات، وحرماناً كبيراً من أبسط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وانتشاراً للعقائد الدينية الجامدة وغير القابلة لأي تطوير، في هذه المجتمعات يصبح اللجوء إلى الحلول الغيبية والوهمية جزءاً أصيلاً من الثقافة المجتمعية والممارسة الإعلامية.

فماذا تتوقع من شخص مستسلم لعقائد غيبية ومحروم ومكبوت أن يفعل سوى التلذذ بقراءة غدٍ يحلم بأن يحقق له بعض أحلامه، فيأتي (فغالي) ما أو (فغالية) لتقدم له مع صحن بزر الميال وكأس المتة أو الشاي صورة وردية عن (بكرا) على المستوى الفردي أو الجماعي، بكونه بطبيعة الحال فرداً من جماعة دينية أو طائفية أو قومية أو تيار سياسي هو صورة أخرى عن هذه الانتماءات الضيقة.

هنا لا يمكن إلقاء اللوم على الشخص الضحية، لأنه ببساطة فاقد الخيار وللحرية، ونحن كما أسلفت من الضحايا أحياناً ونحن نستمع بمتعة إلى تنبؤات أحدهم أو إحداهن وننتظر برجنا من نجلاء أو ماغي أو كارمن حتى لا نبقى في سيرة أكثر النماذج سوءاً وبؤساً ورخصاً: مايك فغالي.

بل لا لوم هنا على أحد، الوسيلة الإعلامية تبحث عن البرامج الأكثر شعبية، والأكثر ربحية بالتالي.

المتنبئ الذي يجني الملايين بلا رأسمال سوى قدرته على التلاعب بالكلمات. المستمع المقهور الممتلئ بالأزمات والجروح والآلام، والذي يركن إلى إيديولوجيا دينية تبشره بجنة بعد عمر مليء بالقهر.

لا نلوم أحداً، بل نلوم (الداية) التي أنجبت كل هذا القهر.

العدد 1105 - 01/5/2024