ماركس ضد سبنسر ..طيف يعود إلى لندن

 (ألا تتساءل لماذا عليهم أن يعلنوا موتي مراراً وتكراراً؟).

 ماركس في سوهو

ليس هناك من رمز لبدء حقبة جديدة في العالم أكثر من وصول مارغريت تاتشر إلى الحكم في بريطانيا، وكانت نذير الشؤم للاشتراكية في بريطانيا وخارجها، إذ بدأت بتحطيم النقابات، بدءاً من نقابة عمال المناجم الذين كسرت شوكتهم بعد الإضراب الذي استمر مدة عام كامل في عام 1984. هذا الانكسار العمالي أشّر إلى مرحلة جديدة لصعود النيوليبرالية كما كانت هزيمة المراقبين الجويين في الولايات المتحدة في عام 1981 على يد رونالد ريغان النسخة الأمريكية لهذا التحول.

بالنسبة إلى السياسة البريطانية الداخلية، كسر حزب العمال بعد ذلك مع قاعدته العمالية، وهذا الكسر أوصله إلى السلطة عام ،1997 سنوات بعد الهزيمة القاسية على يد تاتشر، إلا أنه جعل الحزب يتخلى عن أصوله الاشتراكية التقليدية ويصبح حزب العمال الجديد (( Newlabour أصبح هدف حزب العمال، (كغيره من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوربا)، الوصول إلى السلطة، أما ماذا يفعل بالسلطة؟ فلا يهم في الغالب، فبدلاً من أن يمثل العمال ويكون أميناً حتى لمبادئ الطريق الثالث الذي نظّر له أنطوني جيدينز حول طريق مغاير بين الاشتراكية والنيوليبرالية، فقد أصبح الحكم مع توني بلير في خدمة الرأسمال، وفي خدمة أجندة الولايات المتحدة الخارجية. في مؤتمر الاشتراكية الدولية في 1989 قال أحد المندوبين من كولومبيا: (إن اسم حزبي الحزب الليبرالي ولكنه في الغالب اشتراكي، أما في أوربا فيبدو أن العكس صحيح). في أيام تاتشر زادت اللامساواة، ولكن وتيرتها تزايدت أكثر بعد تاتشر، حتى في فترة حكم حزب العمال، ولم يعد الحزب يذكر حتى في أدبياته وبرامجه عدم المساواة كمشكلة يجب حلها.

أما اليوم فإن جيريمي كوربين، الماركسي يتقدم المرشحين لمنصب رئيس حزب العمال، وهو يريد أن ينقذ الحزب من هذا الارث اليميني. فوجئ اليمين والوسط في الحزب بعد أن ظنوا أن إدماليباند، ابن المفكر الماركسي رالف ماليباند، الذي خسر انتخابات 2015 العامة أمام دافيد كاميرون، سيكون آخر رؤساء الحزب الذين يميلون إلى اليسار، فجاءهم كوربين وهو من أكثر العماليين تشدداً ويسارية، وهو من الذين كانوا يتناقشون دورياً مع رالف ميليباند وصديق العمالي الراديكالي الراحل توني بن، ومن الذين وقفوا إلى جانب عمال المناجم في إضرابهم آنذاك. بعد أن سخر الكثيرون من ترشحه، لم يعد يضحك أحد الآن، كما قالت جريدة الدايلي ميل، ولذلك هبّت القوى البليرية داخل الحزب لمنع هذا الانتصار عبر طرح الحاجة إلى إنهاء (الجنون الكوربيني)، لأن انتخابه سيؤدي إلى عصر طويل من حكم المحافظين. إن هذا الموقف لا يعكس فقط الخلافات داخل حزب العمال حول القيادة والتوجه، بل الخوف من عودة اليسار إلى قيادة الحزب، بعد أن أمعن نيل كينوك في الثمانينيات في تهشيمه، ما استدعاه إلى أن يتدخل الآن ويتّهم التروتسكيين والمتشددين بمحاولة الانقلاب. ولكن الأهم، أن هذه الحملة المعادية لكوربين تعكس مصلحة الرأسمال البريطاني والأوربي في عدم امتداد موجة اليسار إلى بريطانيا، كما يعكس مصالح تحالف التقشف الأوربي الذي يفرض السياسات القاسية على شعوبه، وذلك حماية للرأسمال المالي والمصرفي الكبير. إن برنامج كوربين تحت عنوان الاقتصاد فى 2020 طرح عدة مفاصل لسياسة اقتصادية جديدة، منها التأميم وزيادة الضرائب على المداخيل العالية والثروة، واستحداث مصرف للاستثمار العام، وغيرها من السياسات التي تطيح ما اتفق عليه العمال الجدد والمحافظون في الثلاثين سنة الماضية.

بعد أكثر من عقدين على انتهاء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية، شيء ما يتغيّر. فبعد عقود من التهميش والوعود الكاذبة والرأسمالية البراقة وزيادة عدم المساواة والبطالة وغلاء السكن والتعليم وركود الأجور وزيادة الدين الخاص وتسلط وول ستريت وإضفاء طابع البطولة على رجال الأعمال الذين حاول الديمقراطيون الاجتماعيون تقليدهم، بدأت الشعوب في الدول الرأسمالية المتقدمة بالنظر إلى الاشتراكية على أنها الحل وتؤيد القادة اليساريين مثل تسيبراس وكوربين وساندرز وإيجليسياس، وتؤمن فعلاً بقول كوربين (إن هدفنا ليس إصلاح الرأسمالية بل إنهاء الرأسمالية). اليوم من لندن، حيث عاش أكثر سني حياته وكتب (رأس المال) في المكتبة البريطانية، يطل طيف ماركس مرة أخرى ليؤكد أن الشائعات حول مماته كانت مبكرة، بل مبكرة جداً.

عن (الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024