منارة الضائعين تجلت بوصية

 بهمسات تسللت إلى قلوب الحضور لتترجم حقيقة لابد منها، تجسدت الوصية بغصة واقعية، تارة تثير الذكريات المؤلمة وتارة أخرى يتوجها النصر.

منارة الضائعين عادت بعد مخاض طال أمده لم ينته بانتهاء الآلام، بل كان متجذراً بالعواطف والعقول، كانت بقعة ضوء سلطها الكاتب لتنير تلك الأجساد المتعبة والقبور، كباراً وصغاراً، قتلوا من غير ذنب بطريقة وحشية، وتلقوا الأذية، لماذا؟ لأنهم دافعوا عن سورية وأحبوها.

لحظات الوصية تجولت في المسرح وأيقظت دمعة غافية في عيونٍ تخطت كل الصعاب، وأضاءت شمعة تنير الأمل، ليبقى ظلها في الحياة، فخط الكاتب معاناته داخل الأسر ليس لمجرد توثيق المآسي، ولكن ليفضح الظلم ويسلط الضوء على الإرهاب في كل مكان،
وينصر الحق، فوضع قضيته أمانة في أيدي المخرج السوري ممدوح الأطرش، ليطل علينا هو والممثلون بمشاهد تعكس الواقع وتصوره بأمانة فنية، انطفأت الأضواء،
وبدأ العرض بدخول الإرهابيين وقتلهم لأعداد كبيرة من الناس بشتى الأساليب الوحشية، أراد المخرج بهذه المشاهد أن يرسخ تضحيات الشهداء، ويخلد ذكراهم، فلم يتوان في نقل الواقع من خلال عيون الكاتب، فذهبنا معه إلى التاريخ المشؤوم، حين احتجز الإرهابيون الناس دون التفريق بين صغير وكبير، ومارسوا إجرامهم بإجبارهم على فعل ما يريدون بقوة السلاح.

وأشار المخرج إلى عدة نقاط هامة جسدها الممثلون بأمانة فنية، إذ تشعر بقشعريرة تسكن جسدك حين يتجسد الحصار الذي دام وقتاً طويلاً، وتزامن بهذه الفترة مع ممارسات الإرهاب من قتل وذبح وحرق للأجساد.

طرق يندى لها جبين كل إنسان في العالم، لونها برقصات تعبر عن الحالات الإنسانية من قلق وخوف، من الحاضر والمستقبل الذي ضاع من شبان وشابات ذاقوا مرارة الأسرِ والظلم،
وبالرغم من ذلك بقي الأمل والإصرار يحفز الناس بأنه سيأتي يوم ما تنتهي فيه كل المآسي. فقصة المخطوفين الشائكة في عدرا العمالية التي مازالت إلى الآن تشغل الحكومة السورية والناس في آن معاً، وثّقتها الوصية من خلال شخصين مكبلين بالجنازير الحديدية، يحاولان فك قيودهم بمساعدة بعضهم البعض.

فالمسرحية لم تجسد فقط معاناة شخص بحد ذاته بل تحدثت عن الكثير من القصص التي لا تنتهي عند مشاهد خلال (ساعة وخمس دقائق)، فهي تحتاج إلى فيلم وثائقي كي يستطيع أن يجسد معاناة الناس في تلك الفترة.

أداء الممثلين كان احترافياً ومتقناً، ساهم بإيصال الرسائل التي خطها الكاتب من قلب أحداث موجعة، لا يزال جرحها نازفاً، ولم يكن لشخصية أهمية كبرى دون الأخرى،
بل كان لكل شخصية دورها الهام، لتتناغم كلها وترتبط فيما بينها. فبرعاية من وزير الثقافة الأستاذ محمد الأحمد، وحضور لافت من مختلف شرائح المجتمع، وفنانين كبار، كالفنان دريد لحام، والفنان فايز قزق، والعديد من الفنانين المتألقين على مسرح الحمراء بدمشق أصدرت الوصية عرضها الأول.

جريدة (النور) التقت الفنان فايز قزق وسألته عن رأيه في مسرحية الوصية، وهل حقق العمل الهدف المرجو، فأجاب مختصراً كلماته: (أنا مع كل عمل فني يجمع الناس ويقربهم من بعضهم البعض)،
وعن الشق الثاني من السؤال: هل سيبقى الناس مجتمعين لإعادة ألق المسرح وإحيائه من جديد؟ كانت إجابته: (عندما تتوافر العوامل والشروط التي تجذب الناس، نعم، سنراهم مجتمعين دوماً).

نستنبط أن العمل جسد صمود أبناء منطقة عدرا العمالية في وجه الإرهاب ودحرهم له، وسلط الضوء على تعاضد المجتمع السوري بانتماءاته المتعددة، فكان عملاً استعراضياً تتوازى فيه لغد الجسد والكلمة،
ويجمع بين التوثيق والدراما، وركز أولاً على الحالة الإنسانية والروابط الاجتماعية التي كانت تربط المجتمع دون استثناء ليقفوا في وجه الإرهاب.

 

العدد 1104 - 24/4/2024