الساخرون يكتبون التاريخ

في النهاية يقول الناس ما يريدونه مهما ساد الخوف، ومهما تغوّلت السلطات بأنواعها الدينية والاجتماعية والسياسية..

يقولونه في ظروف القهر والاستبداد على شكل طرائف ونكات تتناول الممنوع همساً، لكن هذا الهمس ينتشر كالنار في الهشيم.

 لماذا؟؟ لأنه مطلوب، لأنه يتمرد على السائد ويقول ما يشعر  الناس بأنه يجب أن يقال..

لنقرأ هذه الحكاية عن زمن الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ينبري الكثيرون لتبرير عسفه وظلمه وشهوة القتل فيه بحجج واهية هي في جوهرها تبرير أيديولوجي ديني.

تقول الحكاية إن الحجاج بن يوسف خرج مع قوّاده للصيد والقنص، فضلّ الطريق، فقابله إعرابي يرعى غنماً، فسأله الحجاج: ما رأيك يا أعرابي في الحجاج؟

فقال: لا حياه الله ولا بيّاه، هو ظالمٌ غاشم.

فقال الحجاج: وما رأيك في الخليفة عبد الملك بن مروان؟

فقال: لعنة الله عليه، أليس هو الذي سلط علينا الحجاج؟

ثم تداركت الخيلُ الحجاج والتفَّت به، فذعر الأعرابي، وقال الحجاج: هل تعلم من أنا.

قال الأعرابي: لا؟

قال الحجاج: أنا الحجاج بن يوسف.

قال الأعرابي: أنت هل تعلم من أنا؟

قال الحجاج: لا.

فقال الأعرابي: إني مجنون من بني عجل، ولي في النهار صرعتان، وهذه أولاهما.

الحكاية مؤشر على الخوف المتغلغل في نفوس الناس من آلة القمع والقتل العمياء، وفي الوقت نفسه تشير الى حقيقة مشاعر الناس تجاه الحاكم الظالم.

في النهاية يخرج من صفوف الناس مبدعون وعباقرة يتحايلون على كل هذا العسف، ويدوّنون في ذاكرة التاريخ كتابةً أو شفاهاً عمّا كانه في الحقيقة هذا الحاكم او ذاك، رجل الدين، الزعيم، الوجيه.. إلخ.

ما إن ينفرد الواحد بمقربين إليه حتى يبدأ كسر التابوات النكات والطرائف، بدءاً من تابو الجنس، فتجد كثيراً من السهرات والجلسات الحميمة تكون مادتها طرفة جنسية تكشف كذب هذا الوقار المصطنع الذي يبديه الجميع امام المجتمع والعائلة.

ثم تابو الدين، بالطرائف التي تتناول المقدس، وتعيده إلى الأرض كائناً من صنع البشر كما أصنام مكة..

وتابو السياسة وهو الأخطر، لأن عسس السلطان جاهزون دوماً لتلقف الراوي أو الناقل،  بل وحتى المستمع لأي طرفة عن سيدهم، وينترونه تقريراً (من كعب الدست) يكون ختام حياته، أو على الأقل يبقيه إلى أجل غير مسمى في ذمة الغياب..قديماً لجأ المبدعون إلى تحميل الحكايات للحيوانات والكائنات الأسطورية.. أما الآن فالإنترنت ووسائل الاتصال الأخرى – وما أكثرها- أتاحت نوافذ لا نهائية للضحك على كل الرقابات وإيصال الفكرة والحكاية وكلام الناس إلى الفضاء الواسع ليتلقفه من يشاء.

فن الكاريكاتير يعطي مساحات كبيرة للفنان كي يوصل فكرته عبر خطوط ورسوم وكلمات، ويزرع البسمة على أرواحنا، ويفضح في الوقت نفسه الزيف والكذب اللذين يسمان الحياة المعلنة للناس.

الأدب بأشكاله وأجناسه، الدراما، الفنون الأخرى، كلها تصب في التعبير عن المخبوء، في (كشف المستور) وهو ما ترفضه وتدينه وتعاقب عليه اشد العقاب كل أنواع السلطات..

لكن، السلاطين والملوك والرؤساء والقادة راحوا، وبقيت الكتب والحكايات والأغاني تقول ما لا تقوله كتب التاريخ الباهتة، الكتب التي كتبها موظفون مأجورون لدى السلطان في وهم من الأخير بأن يغتصب المستقبل أيضاً بعد أن اغتصب الحاضر..

المجد للحرف.. المجد للساخرين الذي يذرفون روحهم ليضحكوا الآخرين، الذين دفعوا أثماناً باهظة ليؤرخوا للقاع الإنساني!

العدد 1105 - 01/5/2024