ماؤها عطر

هي الشام، منذ تأسس الخلق، وربّما قبل ذلك أيضاً، حيث المكان لم يكن يتّسع إلاّ لها. وهي الشام تتكوّم في حلق هذا الكون عصيّة على الانقراض، وصعب مراسها، فلا تسلم أمرها إلاّ لبارئها. وحين تتكاثر حولها ذئاب الأرض تتخلّى عن نصفها الغزلاني لتصير لبؤة الزمان والمكان، فلا يمرّ عابر إلاّ وينحني أمام بواباتها.

هي الشام، صمّام أمان هذا العالم، والورقة الرابحة بأيدي ملائكة الحق والخير والجمال. الشام عدوّ للأبالسة، وخصم لأشرار كل زمان. وإذا كان قدرها أن تتصدى لمجانين هذا العالم وشياطينه، فهي تعيد تاريخها ليتجدد كل يوم عزّة وشرفاً وكبرياء. وما ضحل ماء بردى إلاّ ليذكّر بفيضه المخبوء، وما غادرت الخضرة غوطتيها إلا استعداداً لربيع مختلف، ربيع حقيقي، لوناً وعطاء.

من يعرف الشام على حقيقتها لا يدخلها إلاّ مصافحاً، ومن جهلَ الشام وجاء غازياً فمشكلته أنه لا يقرأ التاريخ، ومن لا يقرأ التاريخ سيخطئ في قراءة كل شيء. سأل مدرّس الجغرافية طالباً: ما أكبر دولة في العالم؟ فأجاب الطالب: سورية. اربدّ وجه المدرس وصرخ: أنت لم تقرأ الجغرافية، فأجابه الطالب بهدوء الواثق: وأنت يا أستاذ لم تقرأ التاريخ.

المشكلة إذاً في القراءة، في صواب ومصداقية القراءة، ومن العبث أن نقرأ الجغرافيا بمعزل عن التاريخ، والعكس صحيح أيضاً. وفي الشام كلا القراءتين مغلوطتان، فهناك أشياء أخرى لا بدّ من إضافتها حين نرغب في قراءة سورية، أشياء تبدأ بالخلق الأول، ولا تنتهي بما ستؤول إليه الأمور من مصير محتوم لأعداء الشام. قراءة ما سيأتي هي الأهم والأكثر إلحاحاً، إن كنا نرغب في قراءة ذات نفع، فما سيأتي سيحمل للعالم حقيقة مفادها أنهم مخطئون، بل إنهم متورّطون في نتيجة حملوا أنفسهم إليها، فضاعوا فيها.

من يعتبر معرفة التاريخ نوعاً من الترف المعرفي هو مخطئ، ومن لا يتّعظ من معرفته بالتاريخ فهو جاهل. وأولئك هم الخاسرون.

الشام بوّابتها (أوغاريت) وعمادها (أبولودور الدمشقي) ومن لم يتّعظ يجيبه نهر الدانوب والجسر المعلّق فوقه، وتجيبه أيضاً أمجاد روما. عصور الشام وحضاراتها لن تنتهي، وليس ما يمر بها الآن أكثر من غمامة صيف كاذبة. للسوريين حكاية تتجدد كل عصر وأوان، حكاية تترجم المعاني الحقيقية لحياة البشر، البشر الذين استقوا من أبجديتها معارفهم، ومن أعلامها علومهم.

 من البشر من لا يعرف أن الشام في مسيرتها، وقد خبت قليلاً، تؤسس لتضيء من جديد، ولتنطلق صانعة عالماً على مقاسها، ومقاييس الشام هي الأصدق والأدقّ والأصحّ. وما من غموض في أبجديتها، فهي الوضوح ذاته، وهي الصراحة والملاحة، وهي منبع الأنبياء ومهد الديانات.

القادمات من الأيام ستحكي الكثير عنها، عن عنفوان رجالها، عن صدق قناعاتها وعقائدها. ستخلق تاريخاً نقيّاً، صافياً كمائها، عطراً كياسمينها، وراسخاً كماضيها. هي الشام وقد استلّت دينها الأمويّ لتضرب به أفكار الكفر والغيّ والضلال، ولترسم بسماحته مساحة واسعة للخير والإيمان والجمال. هي هكذا، ولم تكن في يوم إلاّ هكذا. مصيرها السؤدد، ودربها محفوف كما كان دائماً بالمتطفّلين على حضارة هم بعيدون عنها، بُعْد الثريّا عن الثرى.

وحين نقول عن الشام إن ماءها عطر، فما قولنا من فراغ، ولا إلى فراغ، وسيشهد العالم ذات عبرة كيف كانت الشام، وكيف هي الآن، وإلى أين تمضي. فهل يتّعظ أولو الألباب بما تبقى لديهم من بقايا ألباب؟

العدد 1105 - 01/5/2024