المفاوضات النووية والتحولات السياسية في الشرق الأوسط

كان لدى صانع القرار الأمريكي أربعة سيناريوهات ممكنة وخطيرة للتعامل مع طهران، في حال فشل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وهي:

1- التخلي عن استراتيجية (الدبلوماسية المباشرة) والعودة إلى اعتماد الخيار العسكري وتوجيه ضربة جوية كبيرة إلى المنشآت النووية الإيرانية.

2-  تشديد نظام العقوبات المفروضة ضد إيران بفرض المزيد من العقوبات الخانقة اقتصادياً ومالياً، في محاولة لإجبار طهران على إعادة النظر في موقفها الرافض.

3-  الجمع ما بين نظام العقوبات الجديد والتهديد بعمل عسكري يستهدف المنشآت النووية والأساسية في إيران.

4-  اعتماد استراتيجية أمريكية جديدة تجاه إيران تجمع ما بين نظام العقوبات الصارم وتهديد المصالح الجيو -ستراتيجية (الإقليمية) الإيرانية، في المنطقة.

هذه السيناريوهات الأربعة أثبتت فشلها لعدة أسباب أهمها: أن سياسة فرض العقوبات أثبتت فشلها بسبب وجود إجماع في الشارع الإيراني على أحقية بلادهم في امتلاك مشروع نووي للأغراض السلمية. أما خيار توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية فدونه صعاب كثيرة بسبب الرد الإيراني المحتمل الذي قد يجبر واشنطن على خوض معركة مباشرة قد لا يتحملها اقتصادها المنهك، بعد المغامرتين الفاشلتين في أفغانستان والعراق، ومن أجل ذلك لجمت واشنطن تل أبيب عن القيام بأي تصرف منفرد ضد طهران. أخيراً، محاولة واشنطن وحلفائها تحجيم الدور الإيراني في المنطقة أدى إلى نتائج عكسية زادت من قوة المحور الذي تقوده إيران في المنطقة.

ولدى تقييم السياسات التي تتحكم بمسار التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط تدل وتشير إلى أن إيران وحلفاءها لهم اليد الطولى في التحكم بمسار التطورات والأحداث في المنطقة، فقد نجحوا خلال السنوات الأربع الماضية من تحقيق تقدم متتابع، على حساب تقهقر وتراجع محور ما يسمى بمحور الاعتدال في أكثر من ساحة إقليمية، بعد فشل الأخير في الاستفادة من الدعم الأمريكي والغربي المطلق له في السنوات الماضية، والذي لم يمكّنه من تحقيق طموحاته الإقليمية خصوصاً في العراق وسورية ولبنان واليمن وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد نجح محور المقاومة والممانعة نجاحاً مطلقاً في أن يكون صاحب الكلمة الأساس في أكثر من ملف سياسي إقليمي لا سيما في العراق وسورية واليمن وفي ملف الشرق الأوسط الرئيسي وهو الصراع العربي الإسرائيلي.

لقد أدى ظهور التنظيم الإرهابي (داعش) إلى خلط الأوراق مجدداً في المنطقة والعالم، بسبب التهديد المباشر الذي شكله لأمن الدول الغربية، ما استدعى عمل واشنطن على تأسيس تحالف دولي لمحاربة الإرهاب في المنطقة، لكن هذا التحالف واجه تعقيدات كثيرة بسبب تضارب مصالح القوى الإقليمية الرئيسية الحليفة للولايات المتحدة (تركيا والسعودية) مع مصالح واشنطن وأولوياتها، إذ تشكل قواتها العسكرية العمود الفقري للتحالف في الحرب ضد (داعش).

ولأن السياسة تحكمها المصالح لا العواطف، قررت واشنطن إعادة تفعيل دبلوماسية الأبواب الخلفية التي اعتمدتها مع طهران في مقاربتها للملفين الأفغاني والعراقي والتي أدت إلى نتائج إيجابية صبت في مصلحة الطرفين. هذه الدبلوماسية السرية كشفت عنها النقاب صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية التي كانت خطوطها العريضة رغبة واشنطن العمل على تجاوز أزمة العلاقات القائمة بين البلدين منذ عام 1979. وأثبتت الأحداث الأخيرة في المنطقة أن هناك تنسيقاً عالي المستوى بين العاصمتين في العمليات ضد (داعش) في العراق، ويتحول شيئاً فشياً ليتناول البحث في إعادة هندسة لعبة النفوذ والمصالح في منطقة الشرق الأوسط. خصوصاً بعد التداعيات الدراماتيكية للأزمة السورية التي أفلتت من كل الضوابط، بعد أن تدخلت فيها العوامل الجيوسياسية والطائفية والثأرية بشكل أعمى.

جميع المؤشرات تدل على أن الاتفاق النووي سيتم بين طهران ومجموعة الدول (5+1)، وإن جابه بعض الصعوبات لمحاولة كل طرف زيادة مكاسبه والإقلال من خسائره. هذا الاتفاق سيكون بداية النهاية في علاقات واشنطن مع حلفائها التقليديين في المنطقة (السعودية وتركيا) بعد أن أثبتت الأيديولوجية الوهابية أنها أصل كل الشرور التي أصابت المنطقة في الآونة الأخيرة، وبعد أن فشل العثمانيون الجدد في أنقرة في تقديم نموذج قابل للتطبيق في المنطقة، إذ أثبتوا للجميع أن عقلية القتل والذبح لم تفارق صانع القرار السياسي التركي، وأنها المحرك الوحيد لخيالهم السياسي.

العدد 1107 - 22/5/2024