مواسم الألم

هل حدث ذات مرة أن بكيت وأنت تقرأ_ بكيت نفسك، وطنك، والأشياء الجميلة التي عرفتها أو التي تحلم بها؟ هذا ما يحدث وأنت تقرأ (موسم سقوط الفراشات) باكورة الأعمال الروائية للسورية عتاب شبيب.

السؤال المنطقي الذي يراودك: هل الكاتبة تعرفني شخصياً؟ تتلصص علي أو على قصصي الحزينة؟

حسناً، دع النافذة مفتوحة لا أحد يتلصص عليك وتابع القراءة.

بمهارة عالية تروي عتاب شبيب قصصنا التي نعجز عن الحديث عنها أو نتلعثم والألم يمزقنا حين نرويها_ قصص الوطن المفجوع، قصص الإنسان الممزق، ببساطة هي تغوص عميقاً في تلك المساحات والزوايا القاتلة والمؤلمة وترويها بدلاً منا.

تلجأ الكاتبة إلى أسلوب الحكايا القصيرة لنساء مكلومات لديهن حكايات يروينها، تشكّل في النهاية فسيفساءها الروائي لتغني الخط الأساسي للعمل الروائي وتحفز حاسة السمع لدينا، لسماع كل هذه الحكايا وتخزينها، وتجعلنا نرغب بالمزيد منها رغم البؤس الهائل الذي يبللنا.

رغم كثرة مشاهد الموت في العمل الروائي إلا أننا نلاحظ تمجيد الإنسان الضائع وخطواته المتعثرة في هذه الحرب ومحاولته البحث عن خلاص والتعايش مع الخيبات وتجاوزها رغم الحياة المبتورة التي نعيشها في ظل الحرب وسنواتها الطويلة (وبقيت وحيداً، وحدة الله بين جثث السوريين).

الحرب ثم الحرب هي الفكرة الرئيسية التي تغزوك أثناء القراءة، لكن الكاتبة تتجاوز فكرة الحرب المجردة والمتمثلة بقذيفة أو رصاصة لتعري تفاصيلها، أوجاعها، وما أنتجته من أفعال وردود أفعال، وتزيل الأقنعة التي اعتدنا الاختباء وراءها. هي الحرب التي دمرت الوطن بكل أبعاده وأدخلته في نفق مظلم وطويل (متى تصحو البلاد من كابوسها؟).

الرواية تكسر الصورة النمطية للجندي كآلة حرب مجردة من إنسانيته عبر الشخصية الأساسية في العمل (نزار) الكاتب المسرحي- الجندي الذي وجد نفسه في أتون الحرب، تصف لنا معاناته، خساراته، أسئلته المصيرية، وحياته الاعتيادية في المعسكر وجحيم الحرب الذي دمر حياته. بعدسة كاميرا ترينا وحشة الجندي في الحرب ووحدته، فنزار الإنسان يصادق ضفدعاً في المعسكر ويصبح رفيق وحشته (الكائن الوحيد الذي يرغب في رفقتي)، الضفدع صديقه الوحيد_ اضطر إلى دفنه بعد إحدى المعارك في معسكره المحاصر.

(موسم سقوط الفراشات) ترصد معاناة المرأة، ذاك الكائن المهمش في مجتمعنا والمدفون تحت ركام التقاليد وذكورية الأديان والأفعال والأفكار القاتلة لها. بذكاء تلتقط الكاتبة أحد النصوص من المناهج المدرسية لتلقي الضوء على واقع النساء في سورية وتصويرهن ككائن سلبي وغير فاعل: (بابا يكتب. ماما تطوي. باسم يرسم. رباب تلعب)، ثم جاءت الحرب بفصولها الكئيبة والسوداء لتغذي وقود التهميش والخسارة ولتضع المرأة تحت ضغط وألم مضاعفين حتى تحولت إلى فراشة أحرقت الحرب جناحيها وحولتها إلى رماد متناثر في جحيم الهلاك الذي نعيشه: (لم نكن سوى فراشات، والحرب حولت الوطن إلى موسم واحد تتشابه طقوسه في طقوسنا).

(ولا نهاية للحكاية) هكذا تنهي عتاب شبيب روايتها بكلمات قاسية لتشير إلى أن لا نهاية قريبة أو سعيدة للحرب، فكل منا له حكايته المحزنة ولا نهاية للحزن لمن جرب هيجان الموت والرعب.

العدد 1107 - 22/5/2024