المواطن يحترق ولا يموت..!

بعد تجربة أضخم من جبال هيمالايا، وأكثر مرارة من العلقم.. ومئات جُرْعات الألم المغلَّفة بالصبر، المحمية بدموع الثكالى ودماء الأطفال والشهداء، يظل المواطن السوري يسير على قدميه ذهاباً وإياباً، من البيت إلى مكان عمله وبالعكس، على مدار الفصول الأربعة، وإن كان هذا لا يتحقق في جميع الأيام، ففي معظمها..!

لا يعني الاحتراق أن يصبّ المواطن على جسمه البنزين ويشعل النيران فيه، في إحدى ساحات المدينة، أمام الناس الذين يحاولون إنقاذه، بل إنه يحترق من الداخل وفوسفور دماغه في طريقه إلى التلاشي. وبهذا يكون قد وفَّر ليتراً من البنزين خاصة بعد أن أصبح سعره 140 ليرة سورية فقط لا غير..! ربما يفكّر بشرود ومتاهة الأفكار السابحة تحت غيمة رمادية شاحبة، وهو يهمس في نفسه قائلاً: (سأترك هذا المبلغ لأسرتي لشراء خمس ربطات خبز ونصف ربطة..!؟)

ويحترق المواطن كل ساعة… ويظل الصمت عنواناً لمحبة الوطن.. ولشهداء الوطن.. وسيادة الوطن.. وهو يراقب بدقة ما يجري من تحالفات ضد أبنائه من جهة. ومن جهة ثانية يبدو أن الحكومة تقدّر هذه المواقف المشرّفة، وتقدّم للمواطنين أجمل الهدايا في أضحى متألّم لدماء أطفال مدارس حمص، فترفع أسعار المازوت والبنزين. وهي تعرف حق المعرفة أن المواطن بدأ يخرج البطانيات من مخابئها استعداداً للشتاء القادم، هذا الوحش الذي لا يرحم الفقراء والكادحين.. وهي تعرف أيضاً أن الرواتب والأجور مسكنات لمغص الحالم بالدفء في البرد القادم. وتعرف جيداً أن الصحفيين الذين يصورون الأسواق ويكتبون تحت الصور في شريط الفضائيات (الأسواق مزدحمة والسلع متوفرة والأسعار مقبولة)  يعلمون أن الابتسامات الشاردات البائسات تتنقل على وجوه المتسوقين وتموت في عزّ شبابها، ولا تجد من يحملها إلى المقابر ليدفنها هناك..!

المواطن يحترق من الداخل ويشد حزام التقشّف، وهو يدرك أنه يسير في طريق النحول والشحوب.. ويدرك أيضاً أنه قدّم ويقدم للوطن الكثير، كي لا تتحول الحبيبة سورية إلى مرتع للظلاميين والأمريكييين والخليجيين والعثمانيين.. وهذا واجب ومستحق.. ويرى كل يوم وكل ساعة، الجشعين والفاسدين والمروجين للشائعات، وبث التفرقة ونشر روائح الهزيمة بين الناس.. ويرى كيف تتجمّع الموبقات والعفونة على أطباق تجَّار الحروب والأزمات، وترويج الفساد والرشا جهراً دون أي رادع، قبل شروق الشمس وبعد شروقها وغروبها.. والوساطات الكريهة والسماسرة الذين يحددون المبلغ والدفع بالدولار (كاش)، ودون تقسيط كي لا تطير البركة لمن يبحث عن عمل. ومن يريد تأمين الرغيف بشرف وبعرق جبينه.. و.. و.. و.. دون تقسيط أو تأجيل!

المواطن يحترق ولم يبقَ سوى العظام التي تنتظر من يشتريها.. هناك من ينام في الحدائق.. ويمكنك أن ترى العائلات وهي تلملم فراشها صباحاً وتنشره على سور هذه الحديقة أو تلك.. ومن يجول في شوارع العاصمة، يرى الأطفال والنساء والعجائز يفترشون جسور المشاة والممرات، وعند إشارات المرور وأمام المساجد والكنائس وفي الزوايا ومنصفات الشوارع، يفتحون أيديهم أو يضعون أكياس النايلون أمامهم  يطلبون صدقة، وكما يقولون: (رأفة بأطفالنا ولسدّ جوع مزمن وتشرّد فنحن بلا مأوى..). ويصيحون بأصوات حزينة مبللة بالذل تخرج من حناجر جافة، يدعون بالتوفيق لمن يساعدهم في الدنيا، كي تسجّل له ألف رحمة، ويؤمن له النعيم والحياة الكريمة في الآخرة..!

العدد 1105 - 01/5/2024