بعد دخوله (الأكاديمية الفرنسية) اللبناني أمين معلوف يروي في (الضالون) فصولاً من ماضيه الشخصي والجماع

بعد تكريم الروائي والمفكر اللبناني أمين معلوف غربياً بدخوله (الأكاديمية الفرنسية)، أو ما يعرف بـ(صرح الخالدين) الفرنسي، أصدرت الدولة اللبنانية طابعاً بريدياً باسمه، فيما قرر حاكم مصرف لبنان تكريمه بإصدار ليرة لبنانية من الفضة الخالصة تحمل صورته، على أن لا يصدر من هذه الليرة سوى (1000) قطعة. كما منحه رئيس الجمهورية ميشال سليمان أرفع وسام في الجمهورية. ذلك أن صاحب (الحروب الصليبية كما رآها العرب)، هو أول لبناني يدخل (الأكاديمية الفرنسية)، وثاني عربي بعد آسيا جبار، خلفاً لأحد أكبر عباقرة الأنثروبولوجيا في عصرنا الحديث الأنثروبولوجي (كلود ليفي ستراوس).

وعلى الرغم من أن صاحب (صخرة طانيوس) يكتب بالفرنسية، فإن روح كتابته شرقية خالصة، وللبنان حصة الأسد مما سطر منذ أدبياته الأولى حتى آخر إصداراته الروائية.

يقول صاحب (سمرقند): (أن نغادر وطننا هو أمرٌ طبيعي. أحياناً تفرض الأحداث ذلك، وإلا يجب ابتكار هذه الذريعة. أنا وُلدتُ على كوكب وليس في بلد. طبعاً وُلدتُ أيضاً في بلد، في مدينة، في طائفة، في عائلة، في دار ولادة، في مهد. لكن الشيء الوحيد المهم، بالنسبة إليَّ كما بالنسبة إلى سائر البشر، هو أننا نأتي إلى العالم. أن نولد هو أن نأتي إلى العالم وليس إلى هذا البلد أو ذاك، إلى هذا البيت أو ذاك).

جاء قول صاحب (ليون الإفريقي) هذا في روايته التي صدرت حديثاً عن دار (غراسيه) الباريسية بعنوان (الضالون)، والتي تعدّ مواصلة لمشروعه السردي الإنساني النزعة.

(الضالون).. قصص الأنا والرفاق

في جديده المستوحى من مرحلة شبابه يعود (معلوف) مجدّداً إلى فصول ماضيه الشخصي والجماعي للإجابة ببصيرةٍ نادرة عن تساؤلات عصرنا الملحّة.

ويقص علينا صاحب (الهويات القاتلة) في (الضالون) قصة: مؤرّخ لبناني يدعى (آدم)، يعيش في باريس منذ ربع قرن، يتلقّى اتصالاً هاتفياً في ساعة متقدمة من الليل من صديقٍ قديم له يدعى (مراد) يطلب منه وهو على فراش الموت الحضور بسرعة إلى لبنان لرؤيته مرةً أخيرة. وعلى رغم القطيعة الطويلة بينهما، يركب (آدم) في أول طائرة متّجهة إلى بيروت ويحضر إلى وطنه بعد غياب سنين طويلة.

ومع أن صديقه سيتوفى قبل أن يراه، لن يلبث ماضيه أن يطفو على سطح ذاكرته فيستقر في الفندق الذي تملكه صديقته (سميراميس)، ويسترسل في استحضار رفاق شبابه مستعيناً بذاكرته تارةً، وبملفٍ أزرق حمله معه من باريس ويتضمّن جميع مراسلاته مع هؤلاء الرفاق تارةً أخرى. تذكُّر يقوده بسرعة إلى اللحظات المهمة والأحداث الكبرى التي عاشوها معاً والأحلام النبيلة التي حملوها قبل أن تقع الحرب وتُفسد كل شيء، فيقُرّر بإيعازٍ من (تانيا)، زوجة (مراد)، جمع مَن تبقّى منهم على قيد الحياة كتحية لذكرى (مراد) الذي كان منزله مفتوحاً دائماً للقاءاتهم ونقاشاتهم الحامية.

ومع أن (آدم) لم يكن مقتنعاً في البداية بإمكان تحقيق هذا المشروع نظراً إلى تشتّت معظم رفاقه في القارات وتطوّرهم داخل دوائر مهنية وسياسية وروحية مختلفة، لكن سرعة ردهم على الرسائل التي وجّهها إليهم والحماسة التي أبدوها للقدوم إلى وطنهم وإعادة إحياء روابطهم به وبأصدقائهم القدامى، تنقلان مشروعه من حقل الاستيهام إلى حقل الواقع.

وفي هذا السياق، نتعرّف عن كثب إلى هؤلاء الرفاق، بدءاً بالراوي الأساسي (آدم) الذي يشبه، بشخصيته ومواقفه وولعه بالتاريخ وظروف حياته، (معلوف) نفسه، مع بعض الاختلافات الطفيفة. مروراً بـ(مراد) المتجذّر في أرضه وقوميته اللبنانية والذي ستتّسخ يداه أثناء الحرب بعد اعتلائه منصباً سياسياً بارزاً. و(تانيا) صديقة الجميع منذ الجامعة التي تدافع عن خيارات زوجها (مراد) حتى بعد وفاته. و(بلال) الشاعر الذي عشق الكتّاب الذين شاركوا في حرب إسبانيا (أورويل وهمنغواي ومالرو)، فانخرط في الحرب اللبنانية قبل الشروع في الكتابة، وقُتل في أول قذيفة أُطلقت من الحي المقابل. و(سميراميس) الفاتنة التي بقيت في حالة اكتئاب سنين طويلة، على أثر مقتل حبيبها (بلال)، قبل أن يوقظها انفجار قذيفة قربها على الحياة مجدداً. و(ألبير) الرقيق الذي تخلى عنه والداه وهو طفل وخُطِف أثناء الحرب، في اليوم الذي قرر فيه الانتحار، الأمر الذي أنقذ حياته ودفعه إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة. و(نعيم) الذي خضع لمشيئة عائلته اليهودية فغادر معها إلى البرازيل قبل وقوع الحرب. من دون أن ننسى (رمزي ورامز)، الصديقين التوءمَين، اللذين شاهدا بأعينهما تحطّم مكتب الهندسة الذي افتتحاه فور تخرّجهما، فانتقلا إلى جدّة وكسبا أموالاً طائلة في عملهما، قبل أن يقرّر (رمزي) فجأة التخلي عن كل شيء ودخول الرهبنة بينما يتابع (رامز) مساره ويستقر في عمّان.

رؤية لطبيعة الصراع العربي – الصهيوني

يصف صاحب (سلالم الشرق) أصدقاءه على لسان (آدم) على النحو الآتي: (أصدقائي كانوا ينتمون إلى جميع الطوائف، وكان كل واحد منهم ملتزماً الهزء من طائفته أولاً، ثم من طوائف الآخرين. كنّا نعدُّ أنفسنا من أتباع فولتير أو كامو أو سارتر أو نيتشه أو السورياليين، فعُدنا من جديد مسيحيين أو مسلمين أو يهوداً. كنّا شبّاناً في فجر حياتنا حين حلّ علينا الغروب. الحرب اقتربت ولم يكن في وسعنا إيقافها. كان بإمكاننا فقط الهروب).

ومن خلال هذه الشخصيات، يلقي معلوف ضوءاً كاشفاً على تلك المرحلة المجيدة التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية ولكن، أيضاً على الفظائع التي رافقت اندلاع هذه الحرب.

وعبر شخصية (نعيم) اليهودي يتطرّق صاحب (بدايات) إلى موضوع الصراع العربي – الصهيوني فيضع على لسان والد (نعيم) القول الآتي: (لدينا الحق في العيش في فلسطين مثل الآخرين، وربما أكثر بقليل. لكن، لا شيء يمنحنا صلاحية أن نقول للعرب: ارحلوا من هنا. هذه الأرض لنا منذ الأزل ولا عمل لكم هنا! هذا غير معقول، بالنسبة إليّ، مهما كان تفسيرنا للنصوص (المقدّسة) ومهما كانت عذاباتنا).

وفي رسالة (آدم) إلى (نعيم)، يقول (معلوف): (الصراع الذي شقلب حياتنا ليس مسألة إقليمية كغيرها من المسائل، كما أنه ليس فقط مواجهة بين قبيلتَين (من العائلة نفسها) جار عليهما الزمن. إنه أكثر من ذلك بكثير. فهذا الصراع، أكثر من غيره، هو الذي يمنع العالم العربي من التحسّن ويمنع الغرب والإسلام من التصالُح ويدفع البشرية المعاصرة إلى الخلف، إلى التشنّجات الهوياتية، إلى التعصّب الديني، إلى ما نسمّيه اليوم (صراع الحضارات). نعم، يا نعيم، أنا على يقين بأن هذا الصراع الذي أفسد حياتك وحياتي هو اليوم العقدة المؤلمة لمأساةٍ تتجاوزنا وتتجاوز جيلنا ووطننا الأم ومنطقتنا. أزن كلامي حين أقول: هذا الصراع هو السبب الأول لدخول البشرية في مرحلة تقهقُر بدلاً من السيّر إلى الأمام).

في روايته هذه يكتب صاحب (حدائق النور) كشرقي يريد أن يحكي للآخر رؤيته للعالم كما يراه وكما يتمناه أحياناً، لا كمستشرق يريد أن يرضي الغرب.

العدد 1105 - 01/5/2024