تركيا دخلت بقوة نفق الفوضى وعدم الاستقرار

شهدت تركيا مؤخراً عملاً إرهابياً هو الأكبر في تاريخها الحديث حتى الآن، إذ فجر انتحاريان نفسيهما في تظاهرة للسلام نظمها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي اليساري في العاصمة أنقرة، الأمر الذي أودى بحياة أكثر من 86 شخصاً، وأوقع مئات الجرحى والمصابين. وهذا ما يشير إلى أن تركيا في ظل سياسة السفاح أردوغان دخلت نفقاً مظلماً من الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار قبيل انتخاباتها البرلمانية  التي ستجري بعد بضعة أسابيع من الآن، ومن غير الواضح أنها ستخرج منه قريباً.

تسلسل الأحداث

يعد الحادث الأخير الثالث على التوالي منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران الماضي، وفَقَد فيها حزب العدالة والتنمية الأردوغاني أغلبيته البرلمانية التي احتفظ بها منذ عام 2002. ولأن أردوغان غير راغب بتشكيل حكومة ائتلافية من مجموعة من الأحزاب، ويريد استمرار تفرده بالحكم، فقد ضغط على رئيس الوزراء المكلف أحمد داود أوغلو كي تمر المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة دون اتفاق، ليعلن حتى قبل انتهاء هذه المهلة عن انتخابات مبكرة في مطلع شهر تشرين الثاني، ولهذا أشعل أردوغان الاستقطاب القومي التركي – الكردي بهدف إلغاء نتائج انتخابات حزيران، لاسيما بعد أن تخطى فيها حزب الشعب الديمقراطي حاجز الـ10% للتمثّل في البرلمان.

إذاً، أشعل أردوغان نيران حرب أهلية بين الدولة التركية والأكراد، ما أعاد إلى الأذهان ذكريات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي والحرب الأهلية بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. جدير بالذكر أن تظاهرتين سابقتين شهدتهما تركيا منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة في حزيران الماضي نظمتها حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يتهمه أردوغان بأنه واجهة لحزب العمال الكردستاني، وخلالهما جرى تفجيران انتحاريان متتاليان في تظاهرات سلمية مؤيدة لحزب الشعوب الديمقراطي، الأول في (ديار بكر) قبل انتخابات حزيران وسط حشد لمؤيدي هذا الحزب، والثاني في مدينة (سوروج) في 20 تموز الماضي وسط حشد من مؤيديه أيضاً، كانوا يحتفلون قبل سفرهم إلى عين العرب في سورية للقتال ضد داعش.

اتهامات متضاربة

بالنسبة للاتهامات بالتفجير الأخير فإنها تشمل جهات متعددة متضاربة في توجهاتها ومصالحها.. هناك اتهامات متبادلة بين الأكراد وأردوغان بالوقوف وراءه، وهناك البيان الحكومي التركي الذي أضاف داعش إلى قائمة المتهمين، وهناك اتهام لجهات إقليمية تقف وراء الحادث.. وحسب تغريدة للصحافي التركي قدري غورسل، وهو صحافي معروف (بأن التفجير في أنقرة أتى بعد يومين من إعلان حزب العمال الكردستاني نيته وقف إطلاق النار من جانب واحد عشية الانتخابات، ليكون التفكير مانعاً لذلك). أما زعيم حزب الشعوب الديمقراطي ديمرطاش فقال: (إن هذا الهجوم هجوم من دولتنا على شعبنا)، متهماً أردوغان بأنه يقف وراءه، ويريد استغلاله لتحويل مراكز الاقتراع من المناطق الكردية، لكن المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا رفض اقتراح أرودغان بهذا الشأن، حتى أن حزب العمال الكردستاني أعلن بعد تفجيري أنقرة بدقائق أنه سيجمد العمليات العسكرية حتى موعد الانتخابات إلا فقط في حالة الدفاع عن النفس.. على أية حال هناك شبه إجماع على أن أردوغان يقف وراء تفجيري أنقرة.

مؤشرات الانتخابات المقبلة

وفيما يتعلق بالانتخابات المقبلة في مطلع شهر تشرين الثاني، أشارت الاستطلاعات قبل تفجيرات أنقرة إلى أن الحزب الكردي سيحصل فيها على أصوات أكثر من التي حصل عليها في انتخابات حزيران، وبالتالي سيبقى رقماً صعباً في البرلمان التركي، وأن مشاعر التضامن معه بين فئات اليسار التركي ازدادت بعد التفجيرات الأخيرة. بالمقابل أشارت الاستطلاعات إلى أن حزب أردوغان لن ينجح في رفع نسب مؤيديه، ولو أنه استقطب السياسي التركي (طغرل توركيش) من (حزب الحركة القومية). أما حزب الشعب الجمهوري العلماني فسيحافظ على نسبة أصواته ويبقى الحزب الثاني من حيث عدد المقاعد.

باختصار، تتوقع الاستطلاعات أنه لا تغيير جوهرياً بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، وستحتاج تركيا مرة أخرى إلى ائتلاف حزبي لتشكيل الحكومة، ما يعني ضربة (موجعة) ثانية للسفاح أردوغان وحزبه خلال أربعة أشهر. إضافة إلى ذلك، إذا صحّت توقعات تورط داعش في انفجارات أنقرة، فإن هذا يؤشر إلى اختراقات أمنية خطيرة في تركيا، نتيجة لسياسة أردوغان وحزبه الحاكم التي نسفت الاستقرار في تركيا الذي تبجح به أردوغان طويلاً، إلى جانب أن تحرشات أردوغان بالأكراد وأحزابهم ستزيد من شعبيتهم ومناصريهم عند معظم التيارات المدنية التركية.

لن يستطيع أردوغان الاستمرار في الانفراد بالسلطة بأي ثمن سياسي رغم كل ما يبذله من محاولات التضييق على الإعلام والقضاء وحملات التخويف من الأكراد.

وهكذا حوّل أردوغان الديمقراطية إلى (صندوقراطية) إجرائية رثّة، وظيفتها الحصرية تثبيت مصالحه العائلية ودوائر الفساد الدائرة في فلكه، حتى ولو كان الثمن تصديع التماسك الاجتماعي في تركيا.. وبناء على كل ما تقدم يمكن التأكيد ثانية بأن أردوغان أدخل بلاده بقوة في نفق يصعب الخروج منه، نفق الفوضى وعدم الاستقرار، من أجل تحقيق أحلامه في أن يكون سلطاناً جديداً في المنطقة.

العدد 1105 - 01/5/2024