في الزمن الرديء !

حملتُ معي ديوان شعرٍ لأحد أصدقائي الذي نشره مؤخراً واستدان تكاليف طباعته، وقصدتُ منزل أحد الأدباء في مدينتي، مدينة المياه والحرير،. كان صديقي قد طلب مني أن أكتب مقالاً عن الديوان، وصديقي يريد (مصلحتي) كما قال لي، فأنا سأقبض ثمن استكتابٍ عنه، أما هو، فلن يناله من ذلك إلاّ القليل من الثمن المعنوي الذي لم يعُد يسمن ولا يُغني من شهرة هذه الأيام.!

في الحقيقة كنتُ قد توقفتُ عند كلمة (مصلحتي) قليلاً. فنحن الآن نبحث عن المصالح بشكلٍ أقرب إلى (الغابيّة) وأقصد بالغابيّة الحياة في الغابة، حيث الافتراس والخوف والقلق الدائم والمطاردة. ومن الممكن أن تُغرس الأنياب الحاقدة في ظهرك، ومن الممكن أن تصوّب عليك  الكلمات الشبيهة بطلقات صيادٍ أرعن، أو مفترس داعشي، وقد يقتلك الخوف والحذر على مبدأ قول الشاعر : (ربما ينجيك إغفالٌ ويرديك احتراس)، والمستعدّ دائماً يبدو كأنه غير مستعد، لذلك أصبحنا هذه الأيام نضع (الجدار على رؤوسنا ونقول (سترك يا رب)..!

قد يقول قائل : ومِن أين أتيت بمصطلح الغابية.؟ فأقول : كغيره من المصطلحات الدارجة هذه الأيام..!. ففي ظل الأزمة انتعشت المصطلحات وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت حٌبلى بكل ما يمكن ان يخطر على بال أو ما لا يتوقعه عاقل!

وبالعودة إلى الحديث عن المصالح.. فلا ضير في أن يبحث المرء عن مصالحه. فهاهي الدول الكبرى تبحث عن مصالحها حتى ولو كانت تلك المصالح (من وجهة نظرها) في بلد فقير كالصومال أو السودان أو قرغيزيا.. أو… أو.. (لسوء الحظ أصبحنا من ضمن تلك البلدان!!.) وإلاّ  كيف نفسّر العدد الضخم للجنود الأمريكيين الذين يعيثون فساداً في بلادٍ ليست بلادهم بعيداً عن أهلهم وأولادهم، يقتلون، ويغتصبون، ويفجرون، وينهبون، وفوق كلّ ذلك يتحدّثون عن المصلحة في بقائهم، وعن الخراب والفوضى التي ستعمّ البلاد فيما لو رحلوا.!!

المهم، لن أخوض في السياسة، فالسياسة هي لعبة قذرة كما يصفها المحللون والنقّاد. وسأعود إلى ما بدأت به حديثي.

عندما كنتُ جالساً مع صديقي (نقرقع المتة) دخل علينا فجأة رجلٌ في العقد السادس من عمره على ما أعتقد. كان يحمل بيده اليسرى عصاه وباليد اليمنى كيساً من النايلون. يرتدي لباساً بالياً. أدهشني مظهره وأدخل إلى قلبي الشفقة دون أن أعرفه.

طلب كأساً من الشاي وبدأ يدخّن بشراهة حتى انتهى من كأس الشاي، كنتُ أتفحّصه بينما ينظر إليه صديقي بكثيرٍ من الأسى. عرّفني صديقي عليه، فهمتُ من خلال ذلك أنّه يقرض الشعر منذ زمن يفوق عمري (أي منذ ما يقارب الأربعين سنة).

مدّ الرجل يده وأخرج من كيس النايلون بعض الكتب، كان من ضمنها مجلة فصلية تصدر من دولة عُمان (مجلة نزوى). قلّب أوراقها ثم طلب منّا أن نسمع قصيدته المنشورة في تلك المجلة.

انتهى من قراءة القصيدة وقد تحوّل في نظري من متسوّل إلى أستاذ كبير.. أديب.. شاعر.. وربما اجتمعتِ الألقاب دفعة واحدة في شخصه (الكئيب) كما اجتمعتِ الدموع في عينيه..!!

أصيب الرجل بما يشبه الشلل النصفي ونتيجة ذلك باع كل ما يملك (على قلته) ليتمكن من تجاوز الأزمة قليلاً بعد أن بقي يعاني من المرض في رجله اليمنى التي كُسرتْ مؤخراً.

تحدّث بكثيرٍ من الألم عمّن كان يعتبرهم أصدقاء. وللمفارقة أنّ أحداً منهم لم يبادر إلى مدّ يد العون اليه، بل وجد ذلك العون من أحد أصدقائه الذي كان يقتله دوماً أثناء الدراسة ويصفه بأنه سليل عائلة لئيمة.

لا أدري ما دار بينه وبين صديقه القديم الذي نحن في منزله عندما استدعاه للداخل. وكلّ ما أعرفه هو كلمات الشكر والدعاء التي كان يتفوّه بها، وشيء آخر قاله وهو يجرجر فقره وعوزه ومرارة نفسه.. لقد قال : أنّ القبيلة التي كان يخرج من بين أفرادها شاعر كانت محطّ إعجاب بقيّة القبائل ومصدر فخرها، أمّا الآن، فالشاعر قد تحوّل إلى ما يشبه المتسوّل أو البائع المتجوّل الذي يحمل أمتعته على أمل أن يجد من يشتريها منه حتى ولو بثمن بخسٍ.. كان آخر ما سمعته من ذاك الزائر البائس: نحن في الزمن الرديء.. وبئس الحياة في الزمن الرديء.!!

العدد 1105 - 01/5/2024