في ذكرى الشهداء.. لن تذبل أزهار الوطن

بعد أربعة قرون ونيّف بدأ السوس ينخر جسد الإمبراطورية العثمانية، وتحوَّل ربيعها إلى خريف عاصف، فسقطت أزهار النشوة والسيطرة على الوطن العربي، وجفَّ لعاب السلاطين وتملّح على شفاههم، وبدأ الانحدار يجرف تربة تخيلاتهم وجفَّت سواقي أحلامهم مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وازدادت المشاكل والعثرات ولم يقدر السلاطين والولاة ترقيع ثيابهم التي تقطَّع نسيجها وتمزَّقت أطرافها.. مشاكل بنيوية عميقة أفقدتهم القدرة على الحفاظ على جبروتهم وعنجهيتهم وإيجاد الدواء لترميم عظامهم المنخورة. وعندما استلم السلطان عبد الحميد الثاني العرش عام 1876 دوَّت الصيحات التي طالبت بإصلاح أحوال الرجل المريض وإيجاد المستشفى المناسب لعلاجه، فأنشئ مجلس الأعيان ومجلس النواب وعرفت بلاد الشام أول برلمان لها. وكان من أعضائه: (خالد الأتاسي عن حمص، أمين أرسلان عن جبل لبنان، نوفل نوفل عن طرابلس). ولم تستمر هذه الفترة وسرعان ما تعطّل الدستور وتحوّل حكم عبد الحميد الثاني إلى نظام بوليسي ونظام بطش وقمع واضُطهد دعاة الإصلاح السياسي والكثير من الأدباء والمفكرين العرب، الذين رفعوا أصواتهم وشعاراتهم من أجل حرية البلدان العربية ونيل الحقوق الثقافية والقومية والسياسية.

وفي عام 1915 عام مجازر الشعب الأرمني ومقاصل (أتاتورك) والمسلخ البشري للسريان والأرثوذكس ومن هم غير الأتراك، تبنَّت السلطةالقمعية (نظرية الدماء النقية النازية)، وعيّنت السلطة التركية الظالمة والياً جديداً على سورية خلفاً للوالي خلوص بك، هو أحمد جمال باشا الملقب بـ (السفّاح)، وهو قائد عسكري عثماني ومن زعماء جمعية الاتحاد والترقي ومن المشاركين أيضاً في الانقلاب على عبد الحميد. وعندما وصل إلى دمشق عام  1914 خطب قائلاً: (يجب عليكم يا أبناء العرب أن تحيوا مكارم أخلاق العرب ومجدهم، منذ شروق أنوار الديانة الأحمدية، أحيوا شهامة العرب وآدابهم حتى التي وجدت قبل الإسلام، ودافعوا عنها بكل قواكم، واعملوا على ترقية العرب والعربية، جددوا مدنيتكم، قوّموا قناتكم، كونوا رجالاً كاملين).

خطَّة السفّاح

رسم السفاح خطة قمعية تجمَّعت في غربال السياسة العثمانية وهي:

أولاً-القضاء على السيطرة البريطانية في مصر.

ثانياً- اعتماد سياسة الحديد والنار وإقصاء العناصر العربية من مراكز الإدارة والقرار.

ثالثاً-أحل محلّ الكتائب العربية في بلاد الشام كتائب غالبية جنودها من الأتراك.

رابعاً-فصل الضباط العرب البارزين من وظائفهم وأرسلهم إلى مناطق بعيدة.

خامساً -اعتقال الزعماء الوطنيين والمفكرين العرب والتنكيل بهم وتعذيبهم حتى الموت .. وقام السفاح بإعدام 11 مناضلاً في 21 آب عام 1915 من مختلف مدن سورية ولبنان .. وكان جمال باشا قاسياً حاقداً يعمل للانفصال عن تركيا ولم يتراجع قط عن قرار أصدره، لدرجة أنه في أحد الأيام أصدر حكمه على أحد الأشخاص المرموقين وابنه بالإعدام، وتشفّع بهما أغلب الرؤساء في العالم فلم يقبل التراجع عن قراره، ولشدة الضغوط السياسية والدولية عليه قبلَ أخيراً أن يعدم واحد منهما الأب أو الابن ..ونفذ أخيراً إعدام الابن.

سادساً- توَّج السفّاح سياسته الظالمة الحاقدة على العرب المناضلين والوطنيين المتنورين والمثقفين بنصب أعواد المشانق في بيروت ودمشق، ونفَّذ جريمته في السادس من أيّار عام 1916 فأعدم 21 مناضلاً ومثقفاً عربياً، بعد أن أحال ملفَّهم إلى (المحكمة العالية العرفية) ورفض أية وساطة لإطلاق سراحهم وخصوصاً تلك التي أطلقها الشريف حسين بن علي شريف مكة الذي أرسل البرقيات إلى السفاح والسلطان والصدر الأعظم، وأوفد ابنه الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، وقابل السفاح ثلاث مرات في مسعى لإيقاف حكم الإعدام دون جدوى.. فالسفاح كان قد عقد النية على تنفيذ مخططه الرهيب ومجزرته بحق المناضلين من أجل استقلال سورية ولبنان وسيادتهما وحرية شعبيهما.

إن سورية التي تستعيد صفحات الألم والنصر التي عاشها قبل قرن وتاريخ جرائم الأتراك بحق الشعبين العربي والأرمني. وتذكرنا دماء شهداء أيار ودماء مليون ونصف مليون أرمني وسرياني وآشوري وكلداني ومن المذاهب المسيحية الأخرى، بالبطل الأرمني أسطفان زاغكيان الذي قتلَ السفاح المبعد في مدينة (تبليسي) عام 1921 . وقد روي عن (طلعت بك) زميل السفاح في جرائمه أنه خاطبه بقوله: (لو أنفقنا كل القروض التي أخذناها لستر شرورك وآثامك لما كفتنا).

وقبل شهداء السادس من أيار، صدر في عام 1915 قرار من المحكمة العرفية بدمشق بإعدام ذوقان الأطرش والد سلطان باشا الأطرش مع أربعة آخرين من جبل العرب هم: (يحيى وهزاع عز الدين ومحمد القلعاني وحمد المغوش)، وذلك لتمرّدهم على السلطان العثماني.

وما تزال صورة القطار الذي نقل كوكبة من المناضلين والمثقفين ماثلة رغم مرور مئة سنة.. وتشهد منطقة البرامكة التي ما تزال تحتفظ بآثار أقدام الأشاوس الأبطال الذين نقلوا إلى دائرة الشرطة، وتلك الأنوار التي سطعت في ساحة المرجة في الساعة الثالثة من صباح يوم السادس من أيار عام 1916 ما تزال المرجة تشهد أيضاً والسوريون يتذكرون تلك التضحيات من أجل حماية سورية والحفاظ على سيادتها وكرامة شعبها وحريتها ومستقبلها.

لقد وقف السفاح جمال باشا على شرفة بناية أحمد عزت العابد ليراقب عملية إعدام سبعة من الشهداء هم: (شفيق العظم، عبد الوهاب الإنكليزي، عبد القادر الجزائري، رفيق سلوم، عبد الحميد الزهراوي، رشدي الشمعة، شكري العسلي). وشهدت بيروت إعدام أربعة عشر مناضلاً أيضاً في اليوم نفسه..!

ومن يقرأ التاريخ جيداً يرى أن العثمانية الجديدة تحاول استعادة أمجادها الغابرة، كما تستمر محاولات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في رسم خريطة جديدة للمنطقة وتشكيل الأحلاف الدولية والإقليمية، من أجل (تصنيع الإمبراطوريات الجديدة)واستخدام ما أنتجته ثورة الاتصالات ومنجزات العلم لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط القديم – الجديد.

وما تزال دماء الشهداء تروي أرض سورية.. وما يزال الشعب السوري بمكوّناته يقف صامداً وسنداً خلفياً للجيش العربي السوري الباسل الذي يطارد المسلحين التكفيريين والظلاميين، والذي قدَّم عشرات ألوف الشهداء في المعارك اليومية منذ أربع سنوات ونيّف. فتحية إلى شهداء الوطن وإلى المناضلين الصامدين والشعب السوري الصبور.

العدد 1104 - 24/4/2024