بين المستبدّ البدويّ والمستبد «الحضاري»… الحجّاج وبسمارك

يحفل تاريخنا بالشّخصيّات الفرديّة ولا نعني _هنا _ الفرادة، إنّما نعني النّموذج المتفرّد في استبداده. ففي تاريخنا السياسي والآخر الثقافي أسماء عديدة، لكن الذي استوقفنا هو الحجّاج بن يوسف الثّقفي  (660 – 714م) على أنّه جامع بين (السّياسيّ) و(الثقافيّ). فالحجّاج لقب أزاح الاسم وهو قليل عند العرب بل نادر، فالرجل ولد بالطائف، عمل خطيباً أي (معلماً – شيخاً) ثمّ والياً، والوالي لقب ابتدعته دولة الخلافة الإسلاميّة، وقبل أن يُولّى تولّى الشّرطة في عهد عبد الملك بن مروان الأمويّ (684-705م)، ولأنّه (أبلى) في الحرب ضدّ مصعب بن الزبير قرّبه الخليفة الأمويّ المذكور فعيّنه قائداً للجيش الذي وجهه الخليفة نفسه إلى عبد الله بن الزبير ليضعه تحت (العصا) الأمويّة، لكنّ الحجاج قتل عبد الله بن الزبير واستراح، فكافأه عبد الملك بأن ولاّه (الحجاز) ثمّ مدّ سلطانه إلى اليمن فاليمامة. وعندما انتفض العراق على الحاكم الأمويّ وقع اختياره على الحجّاج وكان العراق موضع الثّورة المضادة والقوى المعارضة (شيعة،خوارج، أهل السّواد) من فقراء الزراعة والحرف والمهن.

وكغيره من الولاة الأمويين والعبّاسيين فرضَ الضرائب ووظّفها في تكوين الجيش وتوسيعه، واتّخذ من (واسط) مقراً له، وكان يعلم أنّه والٍ غير مُرحّب به في العراق، فوظف قدراته اللغوية وتحصيله من علوم الدين واللغة في سبيل إظهار شخصيّة مهيبة. وفي اللحظة الأولى لمواجهته خصومه  كما يروي الجاحظ في البيان والتبيين  عند دخوله المسجد الجامع بالكوفة بعد أن صعد المنبر وهو ملثّم بعمامة خزٍّ حمراء  قال: (عليَّ بالناس)، حتى إذا اجتمع النّاس بالمسجد كشف عن وجهه ثم أنشد مزمجراً:

أنا ابنُ جلا وطلاّعُ الثنايا  

متى أضعِ العمامةَ تعرفوني

والبيت ليس للحجاج، بل إنه لسحيم بن وثيل الرياحي، كما يثبت ذلك الأصمعي في أصمعيّاته، وما استعانَتُه بالشعر لجمال الشعر ولا لتذوقه له ولا لدربته في معرفته، إنّما لأنّ الشّعر وسيلة المستبد الأولى  إلى جانب علوم الدّين  في استبداده. ثم قطع الشّعر، وبدأ يفصح عن نفسه قائلاً: (أما والله إني لأحتمل الشرّ بحِمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإنّي لأرى رؤوساً أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإنّي لأنظر إلى الدماء ترقرقُ بين العمائم واللحى). وحتى لا يبدو على الحضور المستسلم بحكم طاعة المسلم لحرمة المساجد أيّ اعتراض قطع الحجاج نثره ليشفع كلامه بشعر غيره، بل برجز الراجز، فاستعار من رويشد بن رميض العنري كما ورد في حواشي الكامل للمبرد ما ارتجزه:

هذا أوانُ الشدِّ فاشتدي زيمْ  

قد لفَّها الليلُ بسوّاقٍ حطمْ

والقطع هذا براعة من صاحب النثر، فالشعر- مهما يكن قاصراً- معهود لدى السّامع وذو وقع أعمق، وتجري عملية القياس الضمنية بما يريده الخطيب في لحظة لا تعرف اعتدال اللغة أو الموقف.

ثم يستأنف الحجاج الإفصاح عن منهجه في الحكم وكأنّه (المندوب السامي البريطاني عندما جاء إلى العراق 1914) كأنّه محتل خارجي.

 ولو أجرينا مقاربة نصيّة بين خطبة الحجاج أواخر القرن الميلادي السابع وبين الرسالة التي وجهها غلاديستون وزير المستعمرات البريطانيّة إلى قادة الجيش الإنجليزي في العراق لوجدنا الحجاج أكثر وحشية وأبلغ دمويّة،. ولا بدّ أننا سنراعي الفارق الحضاري بين الرجلين،. ولا بدّ أن نضع في سياق المقاربة مسألة الادعاء عند الطرفين فغلاديستون ينتمي إلى الثقافة الأنجلوساكسونيّة، ويمثل الرأسمالية الصناعية الصاعدة، وينظر إلى العراق على أنه مصدر للموارد مهم، ويراه معبراً استراتيجياً بين آسيا الأماميّة وبين الهند تاج المستعمرات البريطانيّة، ورغم هذا وذاك فإنّه لم ينظر إلى أبنائه بازدراء وإنقاص وإقصاء كما نظر الحجاج وفعل. يقول غلاديستون: بعد أن أبلغه مندوبه السامي: أن خطباء المساجد ألهبوا مشاعر العراقيين ضد الوجود الإنجليزي، فاستسأله: هل أعطوهم سلاحاً؟ فقال: لا، فقال: انزعوا من بين أيديهم (كتابهم)، وكان يعني القرآن، والنزع الذي يعني (حاوروهم بين علومنا وعلومهم) حتى يفقد ما عندهم سحره وتأثيره.

 ونذكّر بالمنشور الذي وزعه نابليون بونابرت عندما قاد الحملة الفرنسية على مصر ،1798 إذ استرجع تاريخ مصر وتكلم على حضارات المتوسط، ثم حاول أن يربط بين الحضارة الفرنسيّة وبين الحضارات المتوسطيّة، وزعم أنه جاء ليخلص مصر من المماليك والعثمانيين ويطلعهم على أوربا الحديثة. وقد كان يصحب معه فريقاً من علماء التنوير الفرنسيين وفريقاً آخر في العلوم التجريبية. فنقل المطبعة ورسم مصوراً لمصر…. ولم ينظر إليهم نظرة دونيّة كما نظر الحجاج إلى أهل العراق- يقول المنشور: يا أيّها المصريون قد قيل لكم: إنني مازلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح. وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلِّصكم من حقد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن الكريم).

فالحقد عند البدوي على البدوي يتجاوز الحدود بين المتخالفين، ويعزز هذا ما فعله يزيد بن معاوية

(645- 683م) بالأنصار أهل المدينة (يثرب)، فالأنصار ساعدوا النبي محمداً في الانتصار على قريش وكانوا الحضن الدافئ للدعوة، وفي بدر وأُحد والخندق قاتلوا إلى جانب النبي. وعندما آل الأمر إلى يزيد ناهضته المدينة وخرجت عليه، فأرسل جيشه إليها بقيادة مسلم بن عقبة، فتركها للنهب والحرق والغصب لثلاثة أيام بلياليها، وعرفت هذه المعركة ب (الحرة63ه). ويروي المسعودي في مروج الذهب: أن يزيد طلب أسماء من قاتل مع (محمد) ضد جده أبي سفيان ليقتص منهم، وكان عددهم مئة وخمسة وعشرين، فقتلهم جميعاً).

هكذا هو الاستبداد فكر دوغمائي يتشخص بقائد سياسي يحتمي بأيديولوجية تسوغ له، وتهيئ له المؤسسة شعراء يمتدحونه، وإن لم يكن من شاعر فثمة فقيه أو خطيب، وإن لم يكن واحد من أولئك فإن صاحب اللغة (البلاغة) يسعف نفسه ثم يحتمي الوالي الجديد بالخليفة. فذلك يستحوذ على السلطتين: الدينية والزمنية. يقول الحجاج كاشفاً عن منزلته عند الخليفة (إن أمير المؤمنين كبّ كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها عموداً، فوجهني إليكم، فإنّكم طالما أوضعتم في الفتن… أما والله لألحونّكم لحو العصا، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل).

ونذكر بما قاله سلطان باشا الأطرش داعياً إلى الثورة على المستعمر: (هذا يوم ينفع المجاهدين جهادُهم، فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم، ولا يموت حق وراءه مطالب).

فالفرق ليس هنا اثني عشر قرناً بين الحجاج والأطرش، إنما هو فرق في البنية، فالحجاج قبلي ينتمي إلى الصحراء غالته أعراق العراق وغاله الفراتان، فكرهَ الماء ورفض الأرض وازدرى البشر، في حين دعا الأطرش إلى حريّة الإنسان وكرامة الأرض، لأنّه وليدهما.

وفي العصر الحديث أزاحت المؤسسات الإعلاميّة الشعراء والخطباء والفقهاء لتصنع في أذهان العامّة مالا تستطيعه الفتاوى أو الفواصل المسجوعة أو القوافي المنطوقة أن تصنعه.

بالمقابل وعلى الضفة الأخرى نعاين ظاهرة غريبة في أوربا، هي ظاهرة الحاكم المطلق بسمارك أتوفون (1815- 1898م) تلك الشخصيّة الإشكالية، فقد انتخب في البرلمان البروسي ،1847 ودعا إلى توحيد الأقاليم الألمانية بزعامة بروسيا، وكان أكبر مؤيد ونصير لكبار الملاّك، عمل سفيراً في باريس (1862م)، ثم رئيساً للحكومة بقرار من وليم الأول، ثم اختلف مع البرلمان حول تضخيم الجيش. لم يؤمن بالقوانين فخرقها على نحو فردي، حارب النمسا وطردها من الاتحاد الألماني (1866م). خاض الحرب ضد نابليون الثالث (1871م)، ثم أيّد وليم الأول في إعلانه الإمبراطورية، ثم كون مع بروسيا وروسيا حلف الأباطرة.

ما يهمّنا هنا هو مقولته الشهيرة عندما دخل مع البرلمان في نزاع (إن مشكلات الشعوب لا تحل في المناقشات والمساجلات والمنازعات والتصويت وأغلبية الأعضاء، إنما تحل بالحديد والدماء).

هذه المقولة كانت آخر ما عند الديكتاتورية الأوربية من وضوح عندما تتخالف البرلمانات مع مصالح كبار الملاك، أو عندما تقف الأشكال السياسية في مواجهة الطموحات الرأسمالية الصاعدة. ومن الجدير ذكره أن بسمارك كان يصرح: (إنّ المعركة الكبرى هي معركة الثقافة)، وكان يشير بذلك إلى النزاع بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية، وقد استمر عشرين عاماً.

كانت حياة بسمارك حافلة بالمغامرات، فقد مارس القمع والبطش على الاشتراكيين ( 1875). والأغرب أن البرلمان حينذاك وافقه – رغم الخلاف معه – على قمعه ذلك، وبسمارك نفسه اختلف مع سيده وليم الأول فعزله 1890م وانتهى إلى الهوامش.

وعلى الرغم من فرديته ودمويته إلا إنه شجع الصناعة، وكان يحلم حلماً إمبراطورياً. ومما يثبت ذلك دفعه لجيوشه إلى ما وراء البحار، ورغم معاداته للرأي العام إلا أنه وضع حجر الأساس للانطلاقة نحو المستقبل، ولكنه وضع حجراً آخر هو التأسيس لمجيء هتلر، ومجيئه جاء عبر أصوات العامّة، وكان ذلك كارثة على البشريّة. ولكن العقل الجرماني بما لديه من تراث كانتي وهيغلي وماركسي ونيتشوي وبما لديه من علم تجريبي، دفع بالأمة الألمانية بعد الحرب الثانية (1945) إلى الصف المتقدم على المستوى العالمي، وانتُسي بسمارك، وأُحيل مع هتلر إلى المهملات من رجالات التاريخ.

وأما الحجاج فلا يزال حيّاً، وما اختلف عرب القرن السابع الميلادي عن عرب اليوم إلا في شكل العباءة، لكن اللغة الخطابية التي استعملت كأداة مزمنة للاستبداد ولا تزال تجد في عالم البداوة الحديث قلوباً مفتوحة، ولا تزال تجدد قاموسها المنافي للعصر وللحظة التاريخية، والأنكى من هذا وذاك أن تجد اليوم من يطرح فكرة (المستبد العادل) والتواصف بينهما خرق لقوانين الطبيعة، والتضايف بينهما يوصل إلى الاختناق، فالعدل يأتي من المؤسسات المدنية التي تنشئ القانون الوضعي، ويبقى عرضة للمداولة مادام المجتمع يكتشف الأفضل.

العدد 1105 - 01/5/2024