المعارضة الطارئة

 تصبح المعارضة معارضة شاملة وجدية ومتوازنة وناضجة وتمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً، عندما تعيش معه وتحاوره، وتتفهّم واقعه وأهدافه ومطالبه بحلوها ومرها، وعندما لا تختلف طريقة عيشها عن طريقة عيشه ولا همومها عن همومه، وتتحلى بأقصى درجات المسؤولية الوطنية والاجتماعية، وتتجاهل المطالب الذاتية في سبيل مصالح البلاد، وتمتلك، من طرف آخر، تجارب سياسية حقيقية وآفاقاً سياسية واسعة، وتأخذ الظروف الموضوعية بالحسبان، وتبتعد عن الاستعراض والمغامرة. وإذا امتلكت المعارضة هذه القيم، تكون جامعة قادرة على أداء مهماتها، ومن حقها القول إنها تمثل الشعب سواء اعترف بها الآخر أم لم يعترف.

من المفروض أن تسعى قيادة الفصيل المعارض الأكبر سعياً حثيثاً لتوحيد جميع أطياف المعارضة وفصائلها، سواء كان التوحيد تنظيمياً، بحيث تتحول الفصائل المتعددة إلى تنظيم موحد، أم كان تحقيقاً لتوحيد أسلوب العمل. عندئذ يمكن للمعارضة أن تعقد تسوية مع السلطة القائمة وتجري محادثات للوصول إلى هذه التسوية من دون شعور بالخوف من الاتهام أو التأثر بمصالح شخصية أو بإجراءات ذاتية. وللتسويات عادة أنواع متعددة، فقد تكون مصالحة (عشائرية) و(تبويس لحى) واتفاقاً على إنهاء العداء، أو تسوية تاريخية شاملة تتعرض لبنية الدولة وحاضرها، وترسم إطاراً عاماً لمستقبلها، بحيث تتلاشى مواقف المعارضة والموالاة ويصبح جميع السوريين كاملي المواطنة التي تشكل بداهة مرجعيتهم الرئيسة، ويعملون لبناء وطن موحد منسجم تتحقق فيه المساواة والمشاركة بشكل كامل. ومن المفروض بالتسوية الجدية التي تسمى عادة تاريخية أن تضع أسساً ثابتة للنظام السياسي المتفق عليه ولمؤسسات الدولة وهيكليتها وإطاراً عاماً للتنمية المستدامة ولمواجهة المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وهذا ما يميّزها عن التسوية الطارئة أو المصالحة الطارئة التي تكون غالباً معتمدة على مشاعر المتصالحين وعلى نياتهم الحسنة، من دون أن تدخل في عمق المجتمع وأزمته وأهدافه والصعوبات التي يمر بها والتشابكات الطبقية والاجتماعية والإنسانية القائمة.

فالتسوية التاريخية إذاً ليست مصالحة عابرة، بل تلتزم ببرنامج عمل شامل وعميق تتبناه المعارضة والموالاة ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ويضع أمامه مستقبل البلاد وشروط تنميتها. لم تكن المعارضة السورية الحالية موحدة يوماً. بل هي، للأسف الشديد، متبعثرة ومنقسمة إلى عشرات المعارضات، وبعضها يتصرف بلا مسؤولية ويهتم بمصالح ضيقة، ولسوء الحظ، فإن معظم تيارات المعارضة السورية وتنظيماتها التي تبلغ العشرات لا تمتلك أهدافاً مفصّلة وأساليب عمل محددة. ولذلك ليست لديها رغبة جدية في التحالف بعضها مع البعض الآخر. وكل منها يزعم أنه يمثل الشعب أو الأقرب لتمثيله، وفي ضوء ذلك، تُعقد عشرات المؤتمرات لمناقشة الأزمة السورية يحضرها مشاركون من هذه التيارات السياسية (الوهمية) الذين لا يشعرون بكامل المسؤولية تجاه بلدهم وشعبهم، وإنما يفرحون بمشاركة في ندوة أو مؤتمر، ويأملون أن تُذيّل أسماؤهم البيان الختامي الذي يصدر ويذاع بوسائل الإعلام، وهم في الواقع أقرب إلى المعارضة السياحية منهم إلى المعارضة المسؤولة. فقد عُقدت مثلاً ندوة في مدينة الآستانة لا يعرف أحد من حضرها سوى أقرباء المشاركين، وأصدروا بيانات يمكن أن تكون أرضية صالحة لتقسيم البلاد أو إضعاف إدارتها وسلطاتها. والطريف في هذه المناسبة أن أحدهم كان لديه مؤتمر في أوربا متزامن مع مؤتمر الآستانة الثاني، فأرسل زوجته إلى مؤتمر الآستانة وأثبت بذلك أنها معارضة سياحية فعلاً.

أعلن (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) السوري قبل بضعة أيام أنه لن يشارك في اللجان التي اقترحها دي مستورا احتجاجاً على التدخل العسكري الروسي وأسباب أخرى غير مهمة. وفي الواقع، فإن عدم مشاركة الائتلاف لم تكن لهذه الأسباب. فقد طلب قبل شهر ونيف من المندوب الدولي دي مستورا أن يتفرد وحده (أي الائتلاف) بتعيين مشاركين في هذه اللجان، لأنه (الممثل الوحيد للشعب السوري) عمّدته مئة وعشرون دولة، وبالتالي لا يحق لأحد من أطراف المعارضة الأخرى أن يشارك في هذه اللجان إلا بموافقته. وبرغم صدمة دي مستورا من هذا الطلب واستغرابه مزاعم الائتلاف أنه الممثل الوحيد للشعب السوري، وقوله إنه أخذ موافقة 71 فصيلاً عسكرياً فوّضته بتمثيلها (والواقع أنه لم يأخذ موافقة عسكرية من أي فصيل مهم)، فقد طلب من أعضاء (الائتلاف) أن يعطوه أسماء تكفي للجان الأربع، وحدد فترة أسبوعين لذلك من دون أن يصل إليه أي اسم حتى الآن. وهذا دليل على عجز (الائتلاف) وعدم استطاعته فعل شيء بما في ذلك اقتراح أسماء اللجان، ومع ذلك، مازال يصرّ أنه الممثل الوحيد.

ليس من مصلحة الثورة الآن نقد (الائتلاف) وإظهار عوراته ومخاطر ممارساته على الأزمة السورية، والتذكير بأن معظم هيئاته القيادية تفتقد إلى التجربة السياسية الكفيلة باستيعاب أطراف الأزمة السورية، وابتكار حلول لها أو مواجهة أي مشروع تطرحه السلطة، وفهم واستنتاج جوانبه السلبية والمقصود منه. ونظراً لأن الأزمة السورية في غاية التعقيد وتتداخل فيها جملة شروط داخلية وإقليمية ودولية كما تتشابك مصالح الدول الأخرى، فإن (الائتلاف) لا يستطيع حلها لأنه غير جدير بذلك، ويحتاج، لتحقيق هذا الهدف، إلى الحوار مع أطراف المعارضة الأخرى وسماع رأيها وتشكيل موقف موحّد كفيل بتحقيق تسوية تاريخية مع أهل السلطة، وهذا ما لا يريده.

ستقوم اللجان التي اقترحها دي مستورا بعقد حوار لمواجهة جوانب الأزمة السورية كافة، وقد وافقت السلطة السورية على المشاركة في أعمالها وشكّلت وفدها. وسيذهب هذا الوفد إلى محادثات اللجان موحّد القيادة والأسلوب والهدف، بينما ستذهب المعارضة ويمثلها أكثر من رأي، وستكون أهدافها متباينة سواء شارك (الائتلاف) أم لم يشارك. لذلك سيكون وفد السلطة في المحادثات هو الأقوى، ولعل (الائتلاف) يعرف ذلك. وفي العادة فإن الأسهل لمن لا يمتلك التجربة والخبرة ووضوح الهدف والقوة الحقيقية على الأرض أن يكون متطرفاً وأن يرفض المشاركة أو يضع شروطاً تعجيزية، ويطرح شعارات تظهره أمام جماهيره بأنه الأمين على مصالحهم والقادر على تمثيلهم والمستحقّ لهذا التمثيل والرافض للمهادنة. وليس أسهل عادة من إطلاق الشعارات المتطرفة في مثل هذه الحالات، لكنها في النهاية لن توصل إلى تسوية ولا إلى حلول.

عن (السفير)

العدد 1107 - 22/5/2024