ذاكرة الجسد صوت نسائي ينصف الرجل.. والمرأة

لا يمكن لمن يطالع تقريظ الشاعر الكبير نزار قباني المسطّر بخط يده على غلاف رواية ذاكرة الجسد للروائية العربية الجزائرية أحلام مستغانمي، إلا أن تحرضه تلك الكلمات الكبيرة التي كال بها شاعرنا الفذ هذه الرواية وصاحبتها مديحاً، على قراءتها بحثاً عن سرّ إعجاب شاعر المرأة بهذا العمل الأدبي النسائي، إلى حدٍّ لم يجد معه حرجاً من التصريح بأنها (رواية  دوختني، وأنا الذي نادراً ما أدوخ أمام رواية  من الروايات).

هذا السرّ الذي يتكشف تباعاً عبر صفحات وسطور ومفردات الرواية، فإذا بنا إزاء نص أدبي مختلف شكلا  ومضموناً، أسلوباً وموضوعاً، عن الكثير مما قدم من أعمال روائية عربية خلال الربع الأخير من القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي، وعن كل ما سبقه من أدب نسائي عربي على وجه الخصوص، دون أن تشعرنا صاحبته بتعمدها أو تصنعها هذا الاختلاف عملا  بمبدأ (خالف تعرف).

 أول مظاهر الاختلاف تتجلى في اختيار الكاتبة الجريء إسناد دور الشخصية الرئيسية في الرواية لرجلٍ، تروي أحداثها على لسانه خلافاً لما جرت عليه عادة الأديبات العربيات اللواتي غالباً ما تشبثن بما غدا أشبه بعرف يقتضي وجوب تماهي الكاتبة مع شخصياتها إلى حد التطابق أحياناً. في حين تفاجئنا أحلام بإقدامها على الغوص في أعماق بطلها وسبر خفايا أغواره من خلال إفساح كل المجال له لطرح أفكاره وآرائه وسرد ذكرياته وأحلامه والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه.. حيال المرأة خصوصاً.

ثم لتدهشنا تالياً بطريقة توزيعها الثورية للأدوار على أبطالها من الجنسين، بغض النظر عن التقييم الإيجابي أو السلبي للدور، بحيث لا تتردد في إسناد الأدوار السلبية لشخصيات نسائية على الرغم من أن أحداث الرواية تتناول بمعظمها بيئة شرقية نمطية شديدة الانغلاق والمحافظة، تغري بطرح تلك الصورة التقليدية للمرأة الشرقية كضحية  مسلوبة الإرادة والمصير من قبل (سي السيد).

مبددة ومتجاوزة  تلك الصورة الهاجس التي استهوت جلّ الأدب النسائي العربي حتى الإدمان، تطالعنا الرواية برؤية جديدة لقضية المرأة عبر تقديمها ضمن مشهد وطني إنساني شامل يعالج قضية الظلم بمفهومه الأعمّ.. ظلم واقع على وطن بأسره، برجاله المطاردون في قرّ الجبال وحرّ الصحارى، ونسائه اللواتي تحاصصن الثكل والترمل واليتم، ظلم محتل غاشم لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق شعب أعزل على وقع صدى شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ثم معرجة  على ظلم آخر أشد مضاضة .. ظلم الوطن لأبنائه الذين جادوا بكل غال ونفيس في سبيل حريته وكرامته.

إنها صرخة  مدوية  في وجه أولئك الساعين لافتعال أزمة أخرى تضاف إلى سلسلة الأزمات التي تعصف بالمجتمع العربي عبر إثارة حرب دونكيشوتية بين نصفي المجتمع، ودعوة  صادقة  للعودة إلى جوهر مشاكل عالمنا العربي وجذور أزمته: الاحتلال الأجنبي، الاستبداد، الفساد، الانتهازية، الخواء الفكري، النزعة الاستهلاكية المتعاظمة… إلخ.

فليس كل الرجال أحمد عبد الجواد، ولا كل  النساء أمينة، فها هو ذا خالد الرجل الرومانسي الصادق النزيه، المتشبث بإرث ثورة فقد فيها ذراعه، يقع ضحية خيانة وكذب محبوبته المثقفة الباحثة دائماً عن علاقة  جديدةٍ تصلح مادة لرواية مميزة، لتطعنه أخيراً في الصميم باختيارها الارتباط برجل انتهازي فاسد هو النقيض الصارخ لكل ما يمثله والدها الشهيد.

وهاهو ذا شقيقه حسان القانع المتواضع البسيط يفقد سعادته وهدوءه ومن ثم حياته سعياً وراء تلبية رغبات زوجة  سطحية  متذمرة  مولعة بنمط حياة يقدمه مسلسل أمريكي شهير.

وهاهم أولاء كبار رجالات الثورة ورموزها يفجّرون أشواقهم وحنينهم لأمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم غضباً وصموداً في وجه محتل  تجسدت فيه كل أسباب معاناتهم وآلامهم.

 كل ذلك يجعل من الرواية جرعة مكثفة من النقد السياسي الاجتماعي وحتى التاريخي، مفعمة بالمرارة والخيبة والألم والأمل، قدمت الحدث التاريخي الهام كخلفية  بعيدة  للوحة فنية  غنية  بالعناصر والتفاصيل الدقيقة المؤثرة، بأسلوب رومانسي آسر، ولمسة  أنثوية  شاعرية  تفيض عاطفة  وإحساساً.

أما الخلفية الأقرب.. فكانت دوماً قسنطينة، تلك المدينة العربية التي شاء القدر أن يكافئها على صمودها وعراقتها وأصالتها بطريقته، فأتاح لها يراعاً قدّ من صخرها، خط  ذاكرتها بوجد  عاشق  صوفي  ذاب بها توحداً وبجسورها هياماً، على الطريقة القبانية التي سن  شيخها الأكبر سنّة السكْر بعبير ياسمين دمشق.

(هذه الرواية تشبهني) شهادة غير مسبوقة من شاعر المرأة، تنطوي على عبءٍ بمقدار ما تمنح من شرف،قد تختزل كل ما قيل وما يمكن أن يقال عن عمل أدبي نسائي عربي.

العدد 1107 - 22/5/2024