قراءة للوضع السياسي في تركيا عشية الانتخابات النيابية

يجمع المراقبون السياسيون على أن الانتخابات المزمع إجراؤها في تركيا يوم السابع من حزيران الجاري ستكون نقطة فاصلة في تاريخ تركيا الحديث، إذ إنها ستحدد ما إذا كان العثمانيون الجدد بقيادة رجب طيب أردوغان سيحتفظون بسيطرتهم على الحياة السياسية التركية ويعززون من خلالها قبضتهم على مفاصل صنع القرار في أنقرة، أو إنها ستكون بداية النهاية لهذه المجموعة الفاشية التي أدخلت تركيا والمنطقة في دوامة من العنف والدمار خدمة لطموح مجنون انتاب الثنائي أردوغان – أوغلو، يهدف لإعادة إحياء الامبراطورية العثمانية من جديد.

تجري هذه الانتخابات في وقت بدأت فيه شعبية العثمانيين الجدد تتراجع بطريقة دراماتيكية، ابتدأت بأحداث ميدان تقسيم التي كانت الشرخ الأول في شرعيتهم السياسية، تلتها فضيحة الفساد الكبير التي انفجرت في بدايات عام 2014 فكانت الطعنة التي أصابت في الصميم هذه المجموعة، إذ إنها مست بشكل مباشر شرعيتهم الأخلاقية، التي حاولوا من خلالها أن يقدموا أنفسهم على أنهم ساسة نزيهون لم يتلوثوا بفضائح الفساد ولم تمس أيديهم المال القذر كبقية السياسيين الأتراك كما روجت آلاتهم الإعلامية. فضيحة الفساد هذه أدت إلى شق صفوف تيار الإسلام السياسي في تركيا إلى قسمين، وأعادت إلى الأذهان قصة قابيل وهابيل حين أخذ الصراع مداه بين العثمانيين الجدد وجماعة الخدمة بقيادة رجل الدين فتح الله غولن، إضافة إلى أنها كانت الشعرة التي قصمت ظهر بعير حزب العدالة والتنمية بعد أن ذهبت مجموعة أردوغان – أوغلو بعيداً في تكتيكاتها الهجومية، التي استخدمت فيها التحريض الطائفي والقومي داخلياً وخارجياً، والتي أدت إلى انقسام المجتمع التركي بطريقة عمودية. أما التورط في الأزمة السورية فكان الزلزال الذي هزّ الدولة التركية بقوة وعنف وكانت ارتداداته عنيفة على الاقتصاد التركي، فقضت على الفورة الاقتصادية التي حققها، وأثر بشدة على التوازن الهش بين أطياف المجتمع فيها. لدرجة جعلت البعض يتحدث عن المستنقع الفيتنامي أو عن الكابوس الباكستاني، من ناحية المقارنة بين تداعيات حرب فيتنام وآثارها النفسية على المجتمع الأمريكي، وانعكاسات التورط الباكستاني في دعم حركة طالبان الأفغانية وما أدى إليه ذلك من تغيرات جوهرية في مجتمعي الدولتين.

إضافة إلى ذلك، تأتي هذه الانتخابات في وقت بدأت في أنقرة تعاني من عزلة دولية نتيجة فشلها في معالجة ثلاث ملفات أساسية، كانت عائقاً أمام انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوربي، بدأت بالانفجار واحدة تلو الأخرى في وجه صانع القرار التركي. أول هذه الملفات هو قضية الإبادة الأرمنية، أما الثاني، فهو قضية الحريات الدينية داخل تركيا، أما آخرها فهو الملف الكردي الذي كان الكابوس المؤرق للجمهورية التركية منذ تأسيسها حتى هذه اللحظة. تفاعل هذه الملفات الثلاثة وعدم معالجتها ووضع حل مناسب لها قد يؤدي إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية في تركيا والمنطقة. فمنذ الغزو الأميركي للعراق بدأت الأصوات تتعالى في الإقليم الكردي مطالبة بالاستقلال عن العراق وجاءت أحداث (الربيع العربي) وتفجر العنف المذهبي والطائفي في المنطقة، ما جعل هذه المطالبة خياراً استراتيجياً لدى الأكراد في شمال العراق وبعض أشقائهم في تركيا وسورية، يدعمهم في ذلك بعض القوى الكبرى والإقليمية، بهدف حرف بؤرة الصراع في الشرق الأوسط من جنوب بلاد الشام (القضية الفلسطينية) إلى شمالها، في خطوة ستؤدي حسب واضع قواعد لعبة الأمم إلى تفجير صراع بين القوميات الكبرى في المنطقة، وهي: الفارسية، العربية، التركية والكردية، ويكرس إسرائيل قوى كبرى في المنطقة. أما قضية الحريات الدينية في تركيا فقد عادت للظهور بقوة، بعد أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في أنقرة عام 2002 وانتهاجه لخطاب ديني متطرف بدأ يرتفع رويداً رويداً مع كل استحقاق انتخابي تتعرض له البلاد، حتى أضحى استخدام الرموز الدينية قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها شيئاً عادياً، وهو ما يشكل تعارضاً صارخاً مع الدستور التركي. ويبقى ملف الإبادة الجماعية للأرمن هو أخطر هذه الملفات التي ستواجه الحكومة التركية القادمة لما له من تداعيات كثيرة على الداخل التركي، خصوصاً أن أردوغان، في تكتيكاته الهجومية المعتادة، تجاهل البعد الإنساني لهذه المأساة، واختار الرد من الباب الديني لهذا الملف، الأمر الذي سيكون له ارتدادات على الصعيد الدولي قد يكون من المبكر الحديث عنها الآن.

رجب طيب أردوغان في سبيل سعيه نحو تنصيب نفسه سلطاناً على المنطقة كي يحقق حلمه بالقضاء على الإرث الأتاتوركي في تركيا استعان بخدمات مستشاره الوفي أحمد داود أوغلو الذي وضع له ثلاث نظريات كانت المحرك الأساسي لسياسته في تركيا والمنطقة. هذه السياسات أثبتت فشلها الواحدة تلو الأخرى، فقد تحولت سياسة (صفر مشاكل) إلى (صفر أصدقاء) في الداخل والخارج نتيجة السياسات الخاطئة التي انتهجها هذا الثنائي. أما نظرية (العثمانيون الجدد) التي حاولا أن يقدما بها الإسلام التركي كنموذج قابل للتطبيق في العالم من حيث التزاوج بين تعاليم الإسلام والديمقراطية، فتحولت إلى المرجع الأساس في إنتاج التطرف في المنطقة، بعد أن ظهرت تنظيمات النصرة وداعش التي تربت في كنف حزب العدالة والتنمية لتمارس إجرامها على الأبرياء في المنطقة العربية. وتبقى نظرية القوس المشدود والسهم المندفع الذي حاول من خلالها أردوغان- أوغلو خلق مجال حيوي لهما في الشرق الأوسط ليكون ركيزتهما الأساسية في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، هي الأخطر على الإطلاق، إذ إن هذا السهم المندفع قد يخطئ هدفه ويصيب قلب تركيا والمنطقة في مقتل إن لم يتعظ الناخب التركي والمراهن العربي، من دروس تجربة العثمانيين الجدد في الحكم حتى الآن.

العدد 1107 - 22/5/2024