الدين لله… والوطن لنا جميعاً

منذ أن وُجِدَ الإنسان على الأرض، حتى يومنا هذا، يخاف المجهول لدرجة عبادته بأشكال شتى، فقد عبد النار والشمس وأشياء أخرى كان يجهل مصدرها وقوتها، واتخذ منها رموزاً وأيقونات يُعلقها على صدره مثلما يُعلقها على الجدران، بل وصنع لها رايات تُشير إلى الانتماء لهذا أو ذاك من معبوداته.

 واستمر على هذا الحال حتى بعد أن ظهرت الأديان المتنوعة (سماوية- وضعية) التي احتلت المكانة ذاتها لمعبودات الإنسان البدائي.

لذا، يُعتبر الدين الحالة الأكثر حساسية في حياة الناس، ربما لأنها تُشير إلى الخالق الذي أرسلها لهم بتعاليم تغلغلت عميقاً في النفوس التوّاقة بعضها للخير والكمال، وبعضها الآخر يتشبث بها خشية معصية أو عقاب أنذرهم بها الله الذي ما زال حتى اليوم يمثل القوة الخفية المحسوسة واللامرئية،
مما عزز الخوف في قلوب الناس الذين مازالوا يحاولون التقرّب من الله بطرق ووسائل تتعدد بتعدد الأديان والطوائف والمذاهب المنتشرة في الأرض، والتي حكمت العالم بأسره، وقامت الحروب الدينية بين الشعوب من أجل فرض ديانة الأقوى على الأضعف، في استغلال واضح وصريح للدين من أجل مآرب استعمارية واقتصادية وجغرافية وووو الخ.

ورغم وصول بعض المجتمعات البشرية إلى حالة مدنية، جرى فيها إبعاد الدين عن شؤون الدولة، وإبقائه في حيّز الحرية الشخصية، إلاّ أنه ما زال يحتل المكانة الأولى والأسمى عند الناس حتى في العالم المتحضّر.
غير أن الوضع مختلف تماماً عند شعوب وبلدان ما زالت تسير على شرائع وقوانين مستمد بعضها من الدين رغم ادعائها الزائف للعلمانية، وعزز هذا الحال التسميات التي أُطلقت على بعض البلدان التي تدين بدين واحد، والتي أنشأت المنظمات والمؤتمرات التي تنضوي تحت لواء الدين (مؤتمر الدول الإسلامية، منظمة الدول الإسلامية لحقوق الإنسان… إلخ).

كل هذا الواقع من جهة، وعدم رغبة الحكومات وعدم جديتها في اتباع سياسات مدنية حقيقية لقيادة المجتمع، بسبب السلطات الممنوحة لرجال الدين الذين استغلوا صِلاتهم بالحكومات والأنظمة من أجل إبقاء سيطرتهم على المجتمع من جهة أخرى،
وجعل الناس يلوذون أكثر بالدين، ليكون الانتماء الأول والأوحد، بدل أن يكون الانتماء للأوطان، وهذا ما لمسناه خلال الحروب الأخيرة سواء في سورية أو العراق أو غيرها من بلدان وقعت تحت سطوة السلفيين والأصوليين من رجال الدين.
إذ ظهر بشكل فاضح ومقيت الانتماء للطائفة والدين والمذهب في تلك البلدان من خلال ما تعزز أكثر من ذي قبل، وبات البعض يُجاهر بفظاظة سواء بانتمائه الطائفي أو المذهبي، أو بمحاربته لكل من يخالفه الانتماء بل وتكفيره، مما يستدعي برأيه إقامة الحدّ عليه، وكأنه استل من الله حقوقه.
وقد اتخذت تلك المجاهرة أشكالاً متعددة ابتداءً من وضع الإشارات الطائفية في اليد أو العنق، أو من خلال الأغاني والأناشيد، أو حتى الإشارات على الملابس المدنية وحتى العسكرية التي تُميّز هذه الطائفة عن تلك، ولم تسلم الجدران أو وسائط النقل العامة والخاصة من كل هذا، وبالتأكيد هذا التوصيف يشمل الجميع بلا استثناء.

فإن استمر الحال على ما هو عليه، حتى بعد خمود جذوة الحرب، لا يمكن لتلك المجتمعات أن تتخلص من أحقاد نشأت باسم الدين وورثتها منذ عهود سحيقة، أو أن تسير بركب الديمقراطية والعلمانية والمدنية الكفيلة جميعها بخلق نقلات نوعية في حياة الأفراد والمجتمع وصولاً إلى التطور الحضاري والعلمي في وطن هو للجميع على اختلاف انتماءاتهم المتنوعة والضيّقة.
وهذه مهمة شّاقة لا يمكن سوى للتيارات والأحزاب المدنية والعلمانية، بالتآزر مع حكومات مؤمنة بالعلمانية فعلاً، التصدي لها من أجل الخروج من نفق الأحقاد المتوارثة والطائفية القاتلة، تحت شعار بات ترسيخه في الواقع هاجساً لكل الوطنيين (الدين لله والوطن للجميع). 

إ . و

العدد 1107 - 22/5/2024