الفتنة..داء أم أداة لتحقيق غايات؟

على مر الزمن قامت الكثير من الصراعات والحروب الأهلية الوحشية في العديد من دول العالم، كالحروب الطائفية في إسبانيا على سبيل المثال، والتي وصلت الوحشية بأقطابها أن أخرجوا عظام الموتى من القبور ودنسوها، بعد أن قتلوا جميع الأحياء وأحرقوا كنائسهم وعروا الراهبات ودنسوا أجسادهن ثم صلبوهن..

وهذه الأفعال الهمجية المرعبة، وهذه الرجعية والنكسة الحضارية والارتداد إلى ما دون الوحشية التي تجسدت في مئات الحروب الأهلية والفتن، دفعت العديد من علماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم إلى وضع آليات عديدة لمنع تكرار هذه الصراعات، وأضحى هناك كتب علمية منهجية للتخلص أو خفض احتمالات وقوع فتنة بين أفراد مجتمع فيه مكونات أثنية أو عرقية أو دينية أو طائفية متباينة إلى أبعد الحدود..
ومن تلك الكتب كتاب بعنوان (علم الصراع)، وهذه الكتب في متناول الجميع.. ولكن القوى الاستعمارية وقوى الاستبداد تنظر إلى شعوب ما يُسمى (العالم الثالث) باستعلاء، وكأنها قطعان ولا تؤمن بحقوقها، وبالتالي تلجأ في التعامل معها إلى المبدأ القديم (العصا والجزرة).

إن المسألة في العصر الحديث ليست مسألة (أزمة معرفية) بل إن الإرادة لا تتوافر لإلغاء أي احتمالات لقيام صراعات فئوية.

 فالقوى الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية مازالت تعمل بالمبدأ الشهير (فرق تسد) داخل ما يُسمى (الدول النامية والدول المتخلفة) وضد شعوبها، والفتنة هي(قيمة استعمالية) تلجأ إليها.

وإذا نظرنا إلى العديد من الشعوب الأوربية والأمريكية وغيرها نجدها مكونة من مكونات اجتماعية متباينة لكنها لا تخوض حروباً أهلية، لأن السياسيين فيها يريدون الاستقرار كي تبقى في حالة انتعاش اقتصادي..
بينما يساهمون في نشر الأزمات والصراعات في الدول المتخلفة أو النامية، كي يجري تصريف الأسلحة، إضافة إلى نهب ثروات تلك البلاد، وسطو الشركات الإمبريالية على يد عاملة رخيصة، معتمدة على دعوة أنظمة استبدادية جبانة لها، أنظمة تخاف من شعوبها ولا تمانع إن شاركها أحد في إدارة (أراضيها، مزارعها) مقابل بقائها في السلطة.
وبعيداً عن كل ما سبق نتجه للحديث عن حالة لها خصوصيتها، عمّا يحدث في سورية قلب محور المقاومة الذي استفزَّ قوى استعمارية كبرى قررت ضربه خدمة للكيان الإسرائيلي فلم تدخر جهداً لبث الفتنة.

ويجدر بنا في هذه المرحلة العصيبة، حث مؤسسات الدولة المعنية التي لم تكن تسمح بظواهر، بتنا اليوم نراها جهاراً نهاراً كرموز تدلل على الانتماء الديني والطائفي، التي باتت منتشرة بأشكال مختلفة أبرزها الأغاني الطائفية المستفزة التي تتمحور فكرتها حول الثأر والقتل وضرورة إحياء حروب قديمة بتنا نسمعها اليوم في الشوارع السورية وفي بعض وسائل المواصلات العامة..
يجدر بنا حث مؤسسات الدولة هذه على استعادة حيويتها وكفاءة أدائها، بحيث تحدُّ من هذه الظواهر قدر الإمكان، ولعلّ تعزيز مفهوم المواطنة، وجعل الفرد السوري يشعر أن الحاضن الرئيسي والحامي الرئيسي له هو الوطن، هو ما سيمنعه عن الاندفاع باتجاه انتماءات أخرى أضيق يقدمها على انتمائه الوطني.
وذلك لن يحدث عبر ضخ المزيد من الشعارات الوطنية التي أضحت مبتذلة عبر وسائل الإعلام، وإنما نحتاج إلى عمل على الأرض من قبل جميع الوزارات ومؤسسات الدولة للقضاء على الفساد وتجار الأزمة والطبقية المتنامية، بحيث يلمس المواطن أن الوطن عطاء ومحبة،
وأنه كمواطن ليس قيمة استعمالية بيد الطبقة المتنفذة الفاسدة وتجار الأزمة التي تزداد تسلطاً وثراءً بينما هو يقدم التضحيات ويزداد بؤساً..

والطريقة الأسلم لاحتواء الشباب السوري الراغب بالعمل والتعبير عن نفسه هي عبر إعطاء دور أكبر للأحزاب التي سُلبت دورها فتم تحجيمها.. لأنها البديل الطبيعي عن الانتماءات الطائفية والقومية والفئوية، فالأحزاب السورية جميعها تقوم على جامع فكري تقدمي تحت مظلة الوطن.

 

العدد 1107 - 22/5/2024