مزاد كبير لبيع الأرواح…

أن تملك إنساناً، تشتريه بِحُرّ مالك فيصبح كأي قطعة أثاث في المنزل، كأي أداة كهربائية تستخدمها في المطبخ أو الحديقة أو الترفيه عن نفسك، ثم حين تتعطل ويتعذر إصلاحها ترميها في القمامة، تلك هي العبودية التي تعتمد في تأمين (موادها الأولية) من البشر على تجارة الرقيق.

يقول ول ديورانت في قصة الحضارة: (بينما كانت الزراعة تنشئ المدنيِّة إنشاءً فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق، الذي لم يكن معروفاً في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص، لأن زوجة الصائد وأبناءه كانوا يقومون بالأعمال الدَّنيَّة، وكان فيهم الكفاية لذلك).

سور الصين العظيم الذي يُعتبر مفخرة الصين وإحدى عجائب الدنيا السبع مات خلال بنائه مليون إنسان معظمهم عبيد يعملون في السخرة أي مقابل إطعامهم فحسب.

في إفريقيا قام القراصنة البحريون البرتغال والإسبان وحتى الإنكليز، بعمليات إبادة للرجال، ومن ثم جلب النساء والأولاد، وبيعهم بسوق النخاسة، معتبرين أنهم مجرد حيوانات على شكل بشر سود، وأجبروهم على العمل بالسخرة في البيوت الأوربية، ومن ثم استعملوا الشباب الذين شبّوا في أوربا للأعمال القاسية في البناء ومناجم الفحم الحجري.

على مقربة من الأهرام أكوام من الحجارة غير منسقة، إنها قبور جماعية عميقة، دفن فيها من هلك من العبيد أثناء العمل الشاق في بناء الأهرام، إذ كان ثلاثون ألفاً من الرقيق ينقلون حجارة الأهرام خلال ثلاثين عاماً من بنائها، يسقط منهم المئات كل يوم من التعب والإرهاق وقلّة الغذاء، فيأمر الفرعون بدفنهم في حفر تحيط بالأهرام، ليظلوا يحيطون به في موته، فتخدمه أرواحهم في الموت كما خدمته أجسادهم في الحياة.

الأديان لم تحرم العبودية، بل حاولت تشذيبها قليلاً، لكنها استمرت في تجارة الرقيق، وقصص العبيد والجواري في التراث الإسلامي لا تُحصى.

حدائق بابل المعلقة، أعمدة تدمر ومعابدها، وغيرها من القصور والقلاع من بناها؟

نُسبت إلى الملوك والسلاطين لكن الملايين من العبيد الذين ماتوا، وهم يجرون الحجارة الثقيلة ويرفعونها إلى الأعالي بآلات بدائية، ماتوا وهم لا يعلمون أنهم يبنون أمجاداً لأشخاص، ماتوا وهم يعملون كعبيد لا يملكون شيئاً في هذه الحياة، وربما كان الموت رحمة لهم، فحياتهم كانت سلسلة من العذاب الذي يكاد يكون الجحيم الموصوف في الكتب السماوية نسخة ملطّفة منه.

الآن في الحرب السورية، في غمرة الموت والخراب والهجرات الجماعية برزت إلى السطح ظاهرة الاتجار بالبشر. وحسب التقديرات الرسمية الملطّفة جداً والبعيدة حتماً عن الدقة بسبب صعوبة حصر المسألة، فقد قدّرت وزارة الداخلية السورية أن عدد حالات الاتجار بالأشخاص والمضبوطة في عام 2016 وحده، بلغت نحو 1500 حالة معظمها لشبكات تعمل خارج سورية، وتتواصل مع سوريين في الداخل، مشيرة إلى أن نسبة الضحايا من النساء بلغت 65 بالمئة من إجمالي الحالات التي ضُبطت. فقد أصبحت سورية من دول المنشأ بجرائم الاتجار بالأشخاص بعدما كانت من دول العبور.

نستطيع بلا أدنى تردد أن نضرب هذا الرقم بعشرة ليصبح قريباً من الحقيقة. عشرات آلاف السوريات والسوريين يُباعون في سوق النخاسة العالمية كل عام، بل إن بلداً بحاله ربما يصبح في سوق النخاسة وقد بدأت المزادات تعلو أصواتها.

ليس أمام السوريين، كل السوريين، سلطة ومعارضة، مؤيدين ومعارضين ورماديين وصامتين، ليس أمامنا سوى أن نبدأ من البداية الأولى: الكلمة، الحوار، مع نبذ التفرّد بالحقيقة والاستبداد وخنق الرأي المختلف، لنبدأ من ثم رحلة العودة إلى بلد لا تسكن فيه كل عاهات التاريخ.

العدد 1107 - 22/5/2024