رقص الأميرة بين السكوت والمطر

مثلما أطلق كازنتزاكي اسم النمرة على الكتابة، تجمَّل جبرا إبراهيم جبرا فعنون كتاباً من كتبه القيمة بمعايشة النمرة. ولذلك أتقاطع مع الكاتبين الكبيرين لأسمِّي القصة القصيرة جداً، والمرموز لها بالقاف قاف جيم، بالأميرة الراقصة بين السكوت والمطر. لأنها لم تزل ترقص وتزغرد، وتأخذ حقها من المهتمين بالأدب والثقافة. ولا غرابة في أنها تستريح بعض الوقت، ولكنها كأي عمل إبداعي لا بد لها من العودة حينما يطلب إليها أن تعود. وألا تنام كثيراً، أو تتمادى بهذا الدلال أمام من خسروا كسبها فهاجموها، وخاصموها، وطلبوا مني ومن غيري أن نبتعد عن هذه الأميرة ذات العينين الجميلتين، والنهدين البارزين، وذات الشعر الذي يذكرنا دوماً برائعة دوقلة المنبجي وهو يقول:

لَهْفي علَى دَعْدٍ ومّا خُلِقَتْ

إلاَّ لِطُولِ تلهُّفي دَعْدُ

بيضاءً قد لبسَ الأديمُ أدي

مَ الحُسن فهو لجِلْدهّا جلدُ

ويزين فَوْديها إذا حسَرتْ

ضافي الغدائِرِ فاحمٌ جعْدُ

فالوجهُ مثلُ الصُبح مُبيَّضٌ

والشعرُ مثلُ الليلِ مُسودُّ

ضدَّان لَمّا استُجمعا حَسُنا

والضِّدُ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ

ومع هذا الحنين إليها فلا أرى انحساراً في عالم القصة القصيرة جداً. وأعتقد أنها مثلما بدأت سوف تستمر. وقد عبَّر عن ذلك اهتمام الجمهور والأدباء بها حين كانت تكتب وتنشد في هذا المركز وذاك. وإنها في الوقت ذاته شهدت الإصدارات المتتالية في عقد التسعينيات وفي بداية الألفية الثالثة. ويمكن أن نقول إن القاف قاف جيم تراجعت قليلاً في السنوات الأخيرة. ويعود هذا التراجع لأسباب تشمل أكثر من عمل إبداعي بسبب طغيان وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وبسبب الإنترنت ومشاغل الحياة العديدة والمتعددة. ولهذه الأسباب وأسباب أخرى تراجعت القصة القصيرة جداً. ومع هذا التراجع ظل المزيد من الكتاب يكتبونها. ولا يحبون الابتعاد عنها. وإنها إضافة إلى شروقها في عقد التسعينيات فقد كان لها تاريخ يلتصق بتاريخ الحكاية، أو الأقصوصة، أو أنها إذا ما رجعنا إلى تاريخ الأدب والفنون فسنجد أن القصة القصيرة جداً لها علاقة غير مباشرة بالمقامات. ولها علاقة أيضاً بالبلاغة من حيث المنطق السليم: (خير الكلام ما قلّ ودل).

ومعه مرور الزمن وتكاثر الإبداع ظهرت أجناس أدبية تذكرنا بشرعية (القاف قاف جيم)، فأذكر من تلك الأجناس نوعاً من الشعر الفصيح سُمّي ب (الدوبيت)، ولا أستبعد أن شعر الدارمي المكوّن من بيتين فقط هو الامتداد الطبيعي للدوبيت. وأن الجنسين في نهاية الأمر كان لهما الدور الفعال في حياة المجتمع. ولذلك تغنى بالأخير مزيد من المطربين والملحنين العظام. ولذلك أيضاً أن من كتبوا شعر الدارمي ساهموا في كتابة القصة القصيرة جداً. ولا أتباهى إذا قلت إنني الفقير لله مثلما كتبت ذلك الشعر المغنى كتبت القصة القصيرة جداً. ومن المدهش كان ذلك في منتصف عقد الثمانينيات. وحين نهضت القاف قاف جيم في بداية التسعينيات عدت إلى أوراقي القديمة فوجدت نفسي أمام مفارقة أدبية من المفيد أن تذكر. وذلك من الممكن أن يشكل مشهداً من مشاهد النقد الأدبي ذات الدلالات المفيدة المعبرة.

وكي لا ننأى عما حصل ويحصل، علينا أن نتوقف قليلاً أمام التطور والتغير في مشهد الإبداع. وأن الجميل في هذا هو صاحب تاريخ طويل وعريق في حياة العرب. استهلالاً بالخطابة والقصيدة الجاهلية، وانتهاء بالرواية وقصيدة النثر. ومع هذا إن التاريخ الأدبي ليس بالعقيم أبداً. فسيظل كغيره من ظواهر الحياة، فلا بد له من الإنجاب والتكاثر. وإنه مثلما أنجب المزيد من تغيرات الأدب في عصر الأمويين والعباسيين، فإنه أيضاً سينجب الجديد في تاريخنا المعاصر. وسيدلل على أن القصة القصيرة جداً هي نتاج طبيعي لتطورات الأدب. وهي في الوقت ذاته تطور إيجابي في حياة الفن.. والأدب أيضاً. فلذلك إنني أصر على أن هذا النوع إذا توقف بسبب بعض الظروف فإنه سوف يعود إلى الساحة الأدبية حتماً. وسيكتب بالشكل الأجمل والأفضل أيضاً. وإذا هناك بعض القصص قد كتبت بالشكل الرديء فهذا لا يعني أن العيب في الكاتب ولا في القصة. إن من عرفوا طبيعة القصة القصيرة جداً، وكيفية التعامل معها هم الذين أبدعوا. وأما الذين فشلوا في ذلك فمن الطبيعي أن يتحملوا مسؤولية فشلهم. إن الأدب بالشكل العام هو فن جميل ومعقد. ومن لا يستطيع التعامل مع هذا الفن فمن الطبيعي أن يتعثر، ولكنه يستطيع النهوض إذا ما حاول تصحيح الخطأ بالصحيح. ولا أعتقد أن هناك من لا يسمع بقصة مكسيم غوركي مع الكتابة. فقد ذكر في بعض كتاباته أنه أحرق أوراقاً مكتوبة أكثر مما نشر. وقد قرأت عن شاعر قديم من شعراء مرحلة الكتابة أنه غيَّر ستين محبرة في زمن تعلمه كتابة الشعر. وأما الذين يريدون كتابة الرواية في عشية وضحاها فما عليهم إلا السفر إلى أمريكا اللاتينية ليسألوا غارسيا ماركيز كيف تعلم أن يكتب الرواية الناجحة!

العدد 1107 - 22/5/2024