فيروز وأغنية «عالروزنة»

مثلما تداخل الليل وتناسق مع صوت أم كلثوم فإن الصباح هو الآخر تداخل وانسجم مع صوت فيروز، فأصبح كقهوة الصباح للملايين من العرب والمستعربين. وإن الأمر لا ينطوي على الحس الشعبي وحسب، وإنما هناك المئات من المحطات الإذاعية والتلفزيونية أخذت تغذي أنفسها بهذا الصوت الملائكي الساحر. وأجيز لنفسي أن أضيف لفيروز صفة الغموض في صوتها، وهذا ما يحيرني أمام التساؤل فأضطر إلى أن أجعل من صوت فيروز حكماً على الجدل بين العقل والإحساس، وهما أمران يرتبطان بالعلم أكثر مما يرتبطان بالذوق والإعجاب. فلذلك أن المشكلة تطرح للمناقشة، وأنفي عنها سيوف الحسم والجزم، لأن الأخيرَيْن لا يتناسبان مع رقة الغناء، ولا يتقاطعان مع الشعر والموسيقا. وإن الأفضل في معالجة الفن والأدب هو ذلك التفكير والتأمل العميقين. وقد وصلتُ إلى نتيجة بعد قراءتي للأدب والثقافة العباسية، بأن هناك غوامض في الفن والأدب لا نستطيع كشفها دون العودة إلى ما سبقها من الفكر والأحداث، وقد فعلت فعلها عند شعراء عرب ولدوا بإنتاجهم في زمن الترجمة لأفكار اليونان وفلسفتهم، وما بعد الترجمة لثقافة اليونان ولغيرها من الثقافات الأخرى.

 وإن ما تفرد به أبو الطيب المتنبي لم يكن إلا منعكساً طبيعياً لذلك التأثر الكبير. ولذلك المد الثقافي الهائل. وأما ما تعلق بفيروز وأم كلثوم، وهما واضحتان كوضوح الشمس، فنرى في نجاحهما ثلاثة أسباب رئيسة: أوّلهما هذا الصوت الجميل المدهش. وثانيهما ذلك التلحين المناسب مع جمال وعظمة الصوتين المدهشين. وأما الثالث فهو دون أي شك الشعر المنتقى. وأما ما يظل غامضاً فهو المتعلق بعظمة الأصوات الجميلة، وبقوتها واستمرارية تدفقها. ولا شك في أن هذا الجانب يرتبط بجوانب فيزيولوجية للإنسان. ولا تحل ألغازها إلا فيما تعلق بالبحث والتشريح.

وأما أغنية عالروزنة، التي هي بيت القصيد في هذا الموضوع، فقد كان لها ما يدور حول التفسير والتأويل. فقد نسبها أحدهم إلى عمليات المقاومة في زمن الاستعمار الفرنسي لسورية، وثانٍ أخذها إلى ما وراء التاريخ، كما حصل لموسيقا (ني  نوا) وغيرها من الأغنيات والموسيقا (1)، وأنها بكل بساطة لا تخرج عن الحب الشبابي الذي كان ينشأ بين الشباب وبنات الجيران في مرحلة ما قبل الكهرباء، وما بعد الكهرباء أيضاً. ولكن ذلك في القرى التي لمّا تصلها الإضاءة الكهربائية بعد. أو التي احتفظت ببنائها المعماري صاحب الاشتمال على ما يسمى بالروزنة، وهي نافذة صغيرة مربعة تكون في أعلى جدار الغرفة أو الصالة لتدخل أشعة الشمس الصباحية أو المسائية منها. إضافة إلى أن للروزنة مهمة أخرى وهي أن تكون نافذة لإخراج دخان المواقد في أيام الشتاء. ولأن الروزنا تطل بارتفاعها على (حوش) (2) الجيران في بعض الأماكن، فقد شكلت النافذة المفضلة لمراقبة ومغازلة الحبيب أو الحبيبة، لاسيما حين يكون أهل المراقب أو المغازل في زيارة أو خارج البيت لسبب ما، ولهذا السبب قال الشاعر أسعد سابا:

عالروزنا عالروزنا

كل الهنا فيها

شو عملت الروزنا

الله يجازيها

وأما ماتعلق بهذا الاسم الغريب فقد كنت أظن أنه مشتق من كلمة روز الفارسية، وهي تعني بالعربية (النهار). وقد أسلفنا أن الروزنا البيتية ترتبط ارتباطاً مباشراً بهذا الوقت المرتبط بالشمس وأشعتها.

 وقبل أن أختم هذه المقالة أو أن أعود إلى ماأضيف إلى نهاية البيت الرابع من كلام لا وجود له في النص الأصلي، وهو أن عامة الناس تغنيه ولا تغنيه فيروز كما كانت ملتزمة بالنص الأصلي للشاعر أسعد سابا (1913- 1971) وهو من مواليد كسروان، كما جاء في المصدر الصادر عن المؤسسة العربية للكتاب. فقد قال سابا في البيت الثالث والرابع:

يا رايحين عا حلب

حبي معاكم راح

يامحمِّلين العنب

تحت العنب تفاح

وقالت عامة الناس:

يامحمِّلين العنب

تحت العنب سلاح

 

الهوامش:

1 كتبنا عن هذه الموسيقا الرفيعة مقالتين: الأولى نشرت في الملحق الثقافي لجريدة (الثورة) الصادرة في 8/2/،2005 والثانية نشرت في مجلة (المعلم العربي) العددان 440  441 والصادران عام 2011 تحت عنوان: الموسيقا بين القديم والحديث، موسيقا (ني  نوا) نموذجاً؟

2 حوش. وتجمع على  أحواش بوزن أفعال. تطلق على أفنية البيوت الأفقية الواسعة لتضم بين أسيجتها ما يتبع البيت من الأعلاف والماشية. وهذا ما ينتشر في المزيد من المناطق القروية. فأضيف إلى أنه قد يكون مساحة مسيجة تابعة للبيت، وقد تكون الكلمة من الحضارات القديمة أو من الأزمنة التي جاءت بعدها.

العدد 1107 - 22/5/2024