من الإسكان والاستثمار العقاري إلى هيئة إدارة الأراضي

لعبت المؤسسة العامة للإسكان، خلال العقود الماضية، دوراً هاماً في حياة مئات ألوف المواطنين، من خلال مساعدتها في تأمين المساكن لهم، ضمن الضواحي السكنية الواسعة داخل المدن وعلى تخومها. اشتركت معها في تنفيذ تلك الضواحي الشركاتُ الإنشائية التي تجاوز عمر بعضها نصف قرن، وهي إحدى المكونات الناجحة لقطاع الدولة في سورية. ويقتضي الإنصاف أن نعترف بدور الجمعيات التعاونية السكنية (برغم عثراتها المعروفة) وتسهيلات الإقراض التي مارستها المصارف الحكومية، بحيث كان متاحاً، في سنواتٍ ماضية، الحصول على مسكن لإيواء أسرة موظف متوسط الدخل، وهو ما أصبح متعذراً تماماً، فيما بعد.

كُلفت المؤسسة العامة للإسكان، في السنوات الأخيرة، بجزءٍ كبير من مهمة الاستثمار العقاري، وهي تسعى الآن إلى توطيد هذا التوجه، مع مراعاة وظيفتها الإسكانية الأصلية، بحيث تخصص 70% من المساكن والمقاسم السكنية الواردة في خططها الخمسية لـ(الإسكان الاجتماعي).

نُبدي، أدناه، بعض الآراء والملاحظات، إثر صدور المرسوم التشريعي رقم 26 لعام 2015 المتعلق بالمؤسسة المذكورة، وذلك في ثلاثة محاور:

العلاقة بين الإسكان والاستثمار العقاري

يُستحسن التأكد من صواب دمج المهمة الرئيسة للمؤسسة، منذ إنشائها، وهي الإسكان، بمهمة الاستثمار العقاري. فتأمين السكن للمواطن هو حق من حقوقه، ليتمكن من العيش وأسرته بكرامة. ورغم أن استخدام الأراضي وبعض أعمال التشييد تشترك بهما المسألتان، فإن فروقاً اقتصادية واجتماعية جذرية تجعل من كل منهما مسألة مستقلة بذاتها، كبيرةَ الأهمية والأبعاد.

وفي مستقبلٍ نتمناه قريباً، فإن جهداً أساسياً، قد يكون قيادياً، لإعادة الإعمار يمكن أن يُناط بالمؤسسة العامة للإسكان. مثل هذا الجهد لا يجوز أن يختلط بمهام أخرى تؤثر على حجم التركيز في نشاطٍ هو أهم ما سيحتاجه المجتمع، لسنوات طويلة قادمة.

يمكن تفهم جعل المؤسسة ذات طابعٍ اقتصادي، وهو تحوّلٌ ينبغي تشجيعه بالنسبة لعددٍ متزايد من الجهات الحكومية، لكي تجتهد في تأمين مواردها وتقلل من أعباء موازنة الدولة، ولعل هذا يخفّف من الطابع البيروقراطي لعملها، فتصبح مسؤولة أكثر عن نتائج أدائها.

ولكن الطابع الاقتصادي لا يستوجب دمج الاستثمار العقاري مع الوظيفة الإسكانية التي هي مهمة ذات طابع خدمي، أساساً، كتأمين الماء والكهرباء والصرف الصحي والتعليم والثقافة وغيرها من أساسيات حياة المواطن.

تحتاج تجربة الاستثمار العقاري في السنوات الأخيرة إلى تفحّصٍ لمعرفة ماذا تحققَ في ما يسميه المرسوم (الارتقاء بمستوى العمران)، متجاوباً مع إضافة كلمتي (التنمية العمرانية) إلى تسمية وزارة الإسكان. ومع تقديرنا للمصطلحات المستخدمة، فإن الأمر الجوهري هو معرفة: كيف أثّر النشاط في مجال الاستثمار العقاري على البرامج الإسكانية؟

السؤال الأهم والأبعد مدىً: ماذا حقق الاستثمار العقاري للاقتصاد الوطني وللسياسة الاجتماعية؟ أي هل حمل قيمةً مضافةً، حقيقيةً، أم أنه أسهم في رفع أسعار الأراضي وقلّص فرص الإسكان (الاجتماعي) لصالح مستثمرين كبار، بعضُهم ليس سورياً، محققين أرباحاً كبيرة، في وقتٍ قصير، دون أن ينعكس هذا نمواً اقتصادياً، على نحوٍ يشجع متابعة التجربة، دون إعادة نظر وضبط للسياسات المرسومة.

لا يشكل تخصيص نسبة 70% لصالح السكن (الاجتماعي) في الخطط الخمسية للمؤسسة ضمانةً مؤكدة لسير الأمور، واقعياً، في اتجاهاتٍ متوازنة في المسألتين الإسكانية والاستثمارية العقارية. هل جاءت الإشارة إلى (النسبة) المذكورة صدىً لتوجهاتٍ حكومية مرسومة بدقة؟ أما أنها وسيلة لتسويغ الدمج بين هدفين ليسا من الصنف ذاته؟

ثمة في تجربة بعض المؤسسات الإسكانية التنفيذية، خلال العقود الماضية، ما يدلّ على أن توجهها نحو مشاريع غير إسكانية قلّص من حجم ما نفّذته في مجالها الرئيس، مع تقدير دورها في تنفيذ مشاريع تنموية هامة، غير إسكانية. ولكن الحكومة كانت قد أسست عدداً كبيراً من الشركات الإنشائية لصالح تلك المشاريع. ويمكن تلمس بعض الاضطراب الذي أحدثه ذلك في تجربة القطاع الإنشائي، في عصره الذهبي.

تنظيم إدارة الأراضي بهدف تثمير استخدامها الاقتصادي والاجتماعي وحمايتها

تنصّ المادة 10 من المرسوم، في فصل تأمين الأراضي، على: (نقل كافة أراضي أملاك الدولة الخاصة العائدة لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي الواقعة خارج حدود المخططات التنظيمية وتوسعاتها الملحوظة كمناطق عمرانية سكنية ضمن محاور وأقطاب التنمية العمرانية في دراسات التخطيط الإقليمي إلى ملكية المؤسسة مجاناً، وذلك بهدف تنفيذ الخطط الإسكانية للدولة).

عانت مساحات شاسعة من أراضينا بسبب طرق استثمار جائر، أخرجها من الدورة الإنتاجية، وتحولت أراض زراعية خصبة إلى مناطق قاحلة، أو أنها وُظّفت، أصلاً، في غير المجالات الأكثر اقتصاديةً. وسبّب عدم التنسيق الكافي بين الجهات ذات العلاقة بالأرض، وكذلك التأخر في اتخاذ القرارات المتعلقة بتبعية المؤسسات الحكومية (مثلاً: المديرية العامة للمصالح العقارية، إدارة أملاك الدولة..) وتموضعها في هذه الوزارة أو تلك، إلى أضرارٍ بالغة، قد لا تعوّض..

ربما آن الأوان للتفكير بجدوى إحداث هيئة عامة عليا، تكون مهمتها: رسم استراتيجية إدارة الثروة الوطنية الأساس التي تمثّلها الأرض وتنفيذها، لتحقيق أهدافٍ متسقة، اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، بما يضمن تحقيق أفضل مردود متوازن لها، دون أن يستنزفها.

ينبغي أن يستند نشاط مثل هذه الهيئة إلى دراسة تخطيطية عامة مترابطة وقابلة للتحديث المستمر، على مستوى الجمهورية وعلى مستوى كل إقليم وعلى مستوى الوحدات الإدارية الأدنى. أي أن المطلوب هو الانتقال إلى التعامل مع الثروة الأرضية بطموحٍ شبيهٍ بذاك الذي دفع الدولة إلى إحداث وزارةٍ لإدارة الموارد المائية. ولا تخفى الضرورة القصوى للتنسيق العالي بين هذين الشريانين الرئيسيين للاقتصاد الوطني: الأرض والمياه.

يمكن أن تُكلف الهيئة المنشودة لإدارة الأراضي بالتنسيق التفصيلي، في مجال استخدام الأراضي، بين الجهات الرئيسة التالية:

– وزارات الزراعة والريّ والموارد المائية والإدارة المحلية والسياحة، وكذلك الوزارات التي يتعلق جزء من نشاطها بالأراضي، في مشاريع محددة.

– المؤسسة العامة للإسكان.

– الجهات المعنية بالاستثمار العقاري.

– الجهات المسؤولة عن التخطيط الإقليمي والمخططات التنظيمية.

– إدارة أملاك الدولة.

– المديرية العامة للمصالح العقارية.

من المفيد جداً الاستئناس بتجارب الدول ذات الخبرة في مجال تطوير إدارة الأراضي، كيما نُحدث نقلةً تنظيميةً مدروسةً بعناية، على هذا الصعيد.

المصالح العقارية والسجل المؤقت

يعتمد النجاح في تنفيذ المشاريع المتعلقة بالأراضي، على وجود بنية تحتية مساحية متطورة، من قواعد جيوديزية وخرائط دقيقة وأعمال توثيق هندسي (مكاني) مواكب لتنفيذ المشاريع، لتكون صورة تفاصيل الأرض، من جميع جوانبها، حديثة دائماً، في نظام المعلومات المساحي.

ارتبط استخدام الأراضي، تاريخياً، بحماية ملكية الدولة وملكيات المواطنين للعقارات الزراعية والسكنية. و الأساس في تلك الحماية هو التوثيق الحكومي، قانونياً وهندسياً، للعقارات بأنواعها المختلفة. ويشكل هذا التوثيق المشترك أساساً متيناً لحسن تنفيذ المؤسسة العامة للإسكان وظائفها.

قامت المديرية العامة للمصالح العقارية بتلك المهام، منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، وكانت إحدى أفضل المؤسسات الشبيهة في الدول العربية. بيد أن مستوى أدائها تراجع على نحوٍ حاد، بحيث غدت نموذجاً لمؤسسةٍ فاشلة، تخلّت عن وظائفها الأساسية.

يمكن الاستفادة من فرصة مناقشة وإقرار مسودة تعديل المرسوم لاقتراح إلزام المديرية العامة للمصالح العقارية، قانونياً، بالعودة لتنفيذ المهام التي أُحدثت من أجلها والتي يعمل عليها أكثر من 5000 موظف، وتذكير الحكومة بأن البنود التي تشير إلى إحداث سجل مؤقت للمقاسم والوحدات السكنية، لدى المؤسسة العامة للإسكان، هو أمرّ يزيد الجهات الحكومية المعنية بتوثيق الملكية، تبعثراً، وينحو باتجاه تحويل الطابع (المؤقت) للسجل إلى صفة دائمة وثابتة، وهو واقع الحال، حتى الآن..

** ثمّة ثلاث فجوات كبرى في أداء المصالح العقارية، هي:

عدم قيام المديرية بأيّ دورٍ في تأمين الخرائط الهندسية المساحية الضرورية لوضع المخططات التنظيمية ومخططات نقل التيار الكهربائي وغيره من مشاريع البنية التحتية في المدن والبلدات والقرى، مما أدى إلى قيام فرعٍ هندسيٍ موازٍ في وزارة الإسكان وغيرها، لتأمين الخرائط المطلوبة. إضافةً إلى عجز المديرية عن تهيئة الخرائط لما يقرب من نصف المناطق العقارية، رغم إنجازها للقياسات المتعلقة بها، منذ سنوات.

عدم تحديث ما أنجز في أزمانٍ غابرة، من الخرائط العقارية بالتفاصيل الطبيعية والصنعية المستجدة على الأرض، مما جعلها تخلو، تدريجياً، من قيمتها الهندسية، خصوصاً في المدن، عدا حفظها بوسائط، جعلها غير صالحةٍ حتى للأرشفة التاريخية.

يصعب تبرير عدم ضمّ الجهات العاملة في إنشاء الخريطة المساحية، بنسختها الطبوغرافية، إلى المديرية العامة للمصالح العقارية، حتى الآن، وعدم نقل المخزون الهام من الخرائط التي أنجزتها تلك الجهات إلى المديرية، وهو المخزون الذي يستحيل تحديث الخرائط العقارية دونه.

اللجوء، في أغلب المحافظات، إلى إحداث سجل مؤقت للملكيات العقارية السكنية، دون توثيق هندسي. هل كانت هناك ضرورة حقيقية لإحداثه خارج المصالح العقارية؟ والأهم هل هناك ما يسوّغ إبقاءه خارجها؟

إن الوسيلة الواقعية الوحيدة لإضافة بيانات التوثيق المكاني إلى السجل، هي الاستناد إلى الخرائط المساحية (الطبوغرافية) التي أشرنا إليها في البند السابق، على أن يتم كل هذا، في مكانٍ واحد جامعٍ للبيانات المساحية المدنية، وهو الذي أحدثت المصالح العقارية من أجله.

مسؤولية الجهات الحكومية الراعية للمديرية واضحة، لأنها لم تُنصت إلى نقابة المهندسين، التي لم تكلّ، خلال أكثر من ثلاثين عاماً، بمختلف الوسائل المتاحة، عن تذكير رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الزراعة ( التي تبعت لها المديرية حتى عام 2010) بوجود مأزق هندسي كبير التكلفة في المصالح العقارية، وهو ينمو باستمرار، إلى أن أصبحت المديرية جهةً عامةً يتعذّر تأهيلها، من خلال خطوات إدارية محدودة كاستبدال مديرها العام، وتجاهل ضرورة إعادة هيكلتها و عدم حشد الخبرات الهندسية المؤهلة لتنفيذ الخطة الهندسية التفصيلية التي تضمنتها الدراسة البحثية المعدّة من قبل وزارة الإدارة المحلية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية( تشرين الأول 2012).

لإحداث انعطاف ملموس في أداء المصالح العقارية، لابد من قيام وزارة الإدارة المحلية بالتأكد الدائم من تنفيذها خطواتٍ فعلية للبرنامج الزمني التفصيلي الذي تضمنته الدراسة البحثية، وهو برنامج لثلاث سنوات، بدءاً من تاريخ المباشرة به.

وإذ ندرك عدم توفر جميع الظروف الملائمة لتنفيذ جميع مهام البرنامج، حالياً، فإن ما ينبغي التيقن منه هو كون المديرية تعمل ضمن توجهات الدراسة البحثية، (على المليان)، كما يقال، وليس بعيداً عنها.

لا نُجادل بحق المديرية في أن تختبر المهام المطروحة، في الدراسة، وتعيد النظر ببعضها أو بها جميعها، شريطة أن تبقى اختباراتها ضمن المفاهيم والمبادئ الهندسية المجربّة، لتجنب تأصيل المسار العقاري الكارثي الذي هُدرت، خلاله، مليارات الليرات السورية، بسبب ازدراء المعارف العلمية.

العدد 1107 - 22/5/2024