تداعيات نتائج الانتخابات النيابية في تركيا داخلياً وخارجياً

 وضعت أسس السياسة التركية بعد تأسيس الجمهورية وفق مبدأ هوبز (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) التي تعتمد مبدأ الخوف، كدافعاً للحصول على الأمن. ومع إحكام أتاتورك سيطرته على زمام الأمور في أنقرة دمج التهديدات الخارجية التي تعرضت لها تركيا مع المخاوف الداخلية من التحركات التي قام بها أنصار السلطنة لاستعادة الحكم، أو الأكراد لنيل حقوقهم، في أيديولوجية واحدة تنطوي على رؤية استبدادية في الداخل من أجل (حراسة الأمة من أعداء الداخل والخارج)، لأن الشعور بالخوف يزيد من الشعور التضامني ويشحذ العصبية القومية في مواجهة التحديات الخارجية، ويعمل على تغطية فشل الحكومة التركية في حل المشكلات الداخلية التي تواجه المجتمع والدولة بسبب التوترات والمخاوف الأمنية المبالغ بها، الأمر الذي ينعكس سلباً على السياسات التنموية ويبرر استراتيجية القبضة الحديدية للتحكم بجميع مفاصل المجتمع. وكان من أهم انعكاسات هذه السياسة تفسير كل فشل أو إخفاق أو عجز (داخلياً أو خارجياً) بمؤامرة حاكتها أطراف داخلية أو خارجية. وأصبحت نظرية المؤامرة المدخل التفسيري سلوكياً وعملياً لتصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج وتحميل الآخر (قوى خارجية متواطئة مع أطراف داخلية) مسؤولية ما يحدث.

هذه السياسة استخدمها أردوغان- بعد كل حملات الترهيب والترويع التي مارسها ضد الأتراك عقب فوزه الباهت في انتخابات حزيران الماضي، إلى أن يحقق في الانتخابات الأخيرة حلمه الإمبراطوري العثماني، بتحقيق انتصار ساحق يعطيه شرعية تعديل الدستور، فينطلق منه لفرض تركيا قوة إقليمية كبرى قادرة على الفعل والتأثير في جوارها الإقليمي، في وقت يحتدم فيه التنافس الإقليمي بين تركيا وكل من (إسرائيل) وإيران، وفي وقت دخلت موسكو بقوة في الأزمة السورية، بعد أن بدأ أمنها القومي يتعرض للخطر، لكنها سارت في الاتجاه المعاكس لرياح رغبات الحالم بالجلوس على عرش إسطنبول.

فالنار التي أشعلها العثمانيون الجدد في الداخل التركي سوف تستمر لوقت طويل، الأمر الذي سيؤثر حتماً في قوة الدور التركي ونفوذه في الأزمة السورية، وسيحول دون تمكين أنقرة من أن تقوم بدور بارز في إدارة العملية السياسية المأمولة داخل سورية وفقاً لتوصيات مؤتمر فيينا، خاصة الحوار بين النظام والمعارضة، جنباً إلى جنب مع استمرار الحرب وتصعيدها ضد (داعش) والإرهاب، خصوصاً بعد هجمات باريس الإرهابية، وظهور بوادر أن الأراضي التركية قد استخدمت قاعدة خلفية لهذا الهجوم.

ومما يزيد من ضعف فرص قيام العثمانيين الجدد بدورهم، صداماتُهم مع الأكراد في سورية امتداداً إلى صدامهم معهم داخل تركيا وفي شمال العراق، ففي الوقت الذي حرصت فيه تركيا على أن تشمل ضرباتها (قوات حماية الشعب) الكردية السورية، بدأت كل من روسيا والولايات المتحدة التعويل على العامل الكردي في المواجهة ضد قوات (داعش) في شمال سورية، ما يعني أن حسابات تركيا مع أكراد سورية تتعارض مع حسابات موسكو وواشنطن، فضلاً عن الصدام التركي الحتمي مع روسيا، وربما مع واشنطن ومن خلفها الغرب في الحرب ضد (داعش)، واحتمالات سقوط رهاناتها على المعارضة السورية الحليفة إذا ما نجحت بالفعل عملية (سلام فيينا)، ما يؤكد أن الكثير من رهانات أردوغان في سورية، وربما في العراق أيضاً، تواجه تحديات كبيرة في وقت تصطدم فيه السياسة التركية بقوة مع إيران في كل من العراق وسورية.

تعيش الدولة التركية منذ سنوات تحولات غريبة ملؤها التناقضات العميقة والمفارقات العجيبة، سمتها الغالبة أنها تسير على طريق إعادة هندسة  المجتمع التركي الذي جرى تأسيسه منذ عقود خلت وهي التي تنذر بمواجهات دامية بين المكونات القومية والدينية الكبرى في تركيا. لأن حكومة العدالة والتنمية حاولت قطف ثمار النجاح الاقتصادي الذي وضعت أسسه الثورة الكمالية، وعملت على توظيف هذه الإنجازات من أجل خدمة أهداف مجموعة إيديولوجية تعمل من أجل إعادة تأسيس قواعد لطغيان شرقي، من خلال إفراز وضع سياسي مأزوم يدفع الناخب التركي في استحقاقات سياسية متتالية إلى اختيار أهون الشرّين، إما العودة إلى حقبة الأزمات السياسية المزمنة أو القبول بحكم أردوغان الذي يسعى إلى تحوِّل الجمهورية إلى ملك عضوض له.

قد نشرح هذه القصة القديمة وهي من مرويات الزمن العثماني الجميلة وذات مغزى النتائج التي تلقي بظلالها على تركيا ومنطقة الشرق الأوسط في حال تمكن (العثمانيون الجدد) من تنفيذ مخططهم، تقول القصة: كان في قرية نائية سكّير اسمه بكري مصطفي. يدخل الخمارة مساء ولا يخرج منها حتى الصباح. وحدث ذات يوم أن مات وجيه من وجهاء القرية ذو مال، فاختلفوا فيمن يؤبّنه ويدفنه في قبره. ومن شدة الاختلاف اتفقوا على أن يكون أول من يلقونه في الطريق إلى الدفن هو الذي يتولى التأبين. كان بكري مصطفي هو الأول وكان خارجاً لتوه من الخمارة.

مشى بكري مصطفى مع المشيعين حتى القبر، وطلبوا منه تأبينه فاقترب من جثة الميت قبل أن يواروه الثرى، وبدأ يهمس قريبا منه. انتهى الأمر وجرى الدفن. جاءه بعد ذلك أحد الحضور وسـأله:ماذا قلت للميت يابكري حين همست قريباً منه..؟

قال بكري: لاشيء.قلت له إذا سألوك في الآخرة عن حال الدنيا، فقل لهم إن بكري مصطفى صار شيخاً للإسلام.. وهم يعرفون الباقي!

العدد 1105 - 01/5/2024