طريق العودة من الجحيم
صراخيَ الأخير خلف صندوقكَ المرمري كان وراءك. بعدها فقدتُ ذاكرة الصوت، وفي فمي خرستْ الكلمات، مضيت يومها معك. لم يفهموا البارحة ما أعنيه وأنا أشير إليك، بإيماءات الألم البشرُ جاهلون. تتجول في المكان، رأيتكْ، كنتَ ترقب جسداً يتضخم، جسدي ينتفخُ جذعه. لا قيمة لدموع خلف الستارة. لا ثمنَ لأسىً يُخفي في أحشائه طفلاً لا يأتي، وفي البهو يندبُ جداً لا يجرؤ على طرق الأبواب.
تغيرتَ كثيراً أبي. كسولاَ في اقتلاع خوذةِ الحرب، الغبارُ يكتظ بوجهك، يتناثر خلفكَ يلطّخ المكان، يحطُّ فوق حبالي الصوتية.
تخرج كثيراً؟ كيف؟ لا يلتزم حراسٌ في أزمنة الخوف! يتواطأ مع أحدهم ويواربُ الناصية ليلاً، لعله يحتاج غيابكَ القصير فيؤجر نزيلاً هارباً. ليس بمحظوظ من يتقن لغة العالم الآخر (سفلي وعلوي).
من أحشر ذاتي في هويتي أنا: (ابنتك). لا أنفك أثور، اعتقلُ مُختلِفَ وثائقي، وجوه من لا يشبهونك، لقبي الأخير مزقته، ومن تبعيتي يسخر الكون: (أين هو؟).
– لم يخذلني! لا يصغي أحدٌ لبكماء المدينة.
كل شيء يضيء خارج العتبة، كنتَ ساهماً حين غافلتُ الباب وخرجتْ. أقلام الاتهام الغافية بيدكَ فعلتْ، الحارسُ الملاكُ.
لن أفتقدهم، الجاثمين في المواقد المشتعلة، الفكر، الجمرُ والخمر. أسمع دويّ الكؤوس تدق رأسي، أركض للأعلى بعودٍ عصيّ الاحتراق. هجرني الدمع من يومي. أبى أن يورث للرماد ملحه. يغلق جفنيّ عليه. يرطبُ بجلالٍ غصتي.
يا لأساطير الدفء الأخضر! يا لطقوس الضوء الغريب! ياللشمس. يا لمرايا قامتي. أنسلُ النور وأرتق. أغزل وأحيك، يا لآلئ الغبار، يا الثوب الذهبي. يا لأمنيات عتمتي.
لا انتظار، لا توقع، لا تسوية بين عقلٍ ولبّ، هل من خطوة لا تخشى تعثرها، هل من قدمٍ تقتلعُ الجذور؟
من ألّف حكاية البدء! أول راوٍ، من المصغي! متى نشروا الريبة، الخشية؟ كيف أنشؤوا الورطة الأولى العزلة الأقدم؟! من شدّ الخوف حتى تمزُقِ اليقين؟ من رتب القلق في رفوف الروح ونام؟!
بوردة مجلدك القديم ألصقتُ صوتي. أوقدتُ هواجسي. في جرف السطور، جمعتُ الهوامش بجعبتي، رممتُ جموع الكسور. في ظل الخبر استرحتْ، تقلبتُ في معنى الوجوه. الموؤودةُ في مذكرتك، بكيتُ وضحكتُ، تهاويتُ فوق نقاطك الحبرية.
ياللفقر الكريم، يالزحمةِ الوحدة، ياللإحباط العظيم. آه منه الحنين. سحر الهاوية جاذب الغرق. للنجاة صوتٌ رخيم، لطالما اخترنا القنوتَ، نحن ضجيجُ الأنين.
لنحيا هنا. فقط رفة عين ونكبر. (غمضة عين والصنوبر يظللنا).. هي كلماتك لطفلة المسافة الباكية. أرتب قرابين اللهفة، العنبر المسفوك وسلال الياسمين.
رفة عينٍ لمنقبةٍ بك، بعنادها. وتستحضر نذور المحال، تخمّر ليالي الصمت. تلاقيك بين الجموع هناك حيث يرقدُ عتيقُ الشِّباك.
عن نهاياتٍ كبرى يتحدثون، عن دوامة آمالٍ محتلة. للوجع نهاية، للقهر مثله. تعال لنحتلّ خلاصنا، لنمتْ فلنحيا ها هنا.
تعال نعلن قيامتنا. أخرجُ من كتابكَ، ومن أصابعكَ الحبرَ تسكبُهُ. لنخلع عنا الضوء والعتمة. لنتخلّ عن البخور والعطور، عن الجذور. تعال لثورة تخصنا وحدنا لا أمكنة فيها، لا دهور. تعال إلى قدرنا القاتل، تعال.