نزار قباني وموت الأمنية

من الموجع ألا أتذكر كيف ومتى تعرفت إلى الشاعر الراحل كمال فوزي الشرابي. وكل الظن إذا لم يكن ذلك في عقد الثمانينيات فإنه في عقد التسعينيات حتماً. ومع هذا نشأت بيننا علاقة أخوية من الطراز الرفيع. وبواسطتها عرفت أنه كان زميلاً للشاعر الراحل نزار قباني في المرحلة ما قبل الجامعية.

وإضافة إلى ذلك ربطت بينهما صداقة أيضاً. وأما أحواله الاجتماعية التي كان كريماً بالإفصاح عنها فقد حدثني أنه من الأيامى، ولكنه سبق أن تزوج، وله ابن يعمل في الخليج، وبنت متزوجة في لبنان واسمها شهرزاد.

وكمال مثلما كان يكتب الشعر الفصيح كان له عمل دائم في ترجمة الأعمال الثقافية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وكان ينشرها دوما في مجلة المعرفة، لا سيما الأعداد التي تابعتُها في السنوات الأخيرة من حياته.

وخلال الفترات التي كنا نلتقي فيها حدثني عن مجلة (القيثارة) التي كان يشترك في إصدارها(*)، فحصلت على مجلد منها بعد موته، وهي مجلة بديعة تؤرخ لمرحلة مهمة من مراحل الشعر في ذلك العقد البديع. وكان من فضل المهتمين بالشعر السوري أن عملوا على إعادة طباعتها ضمن مجلد واحد صدر عن وزارة الثقافة في عام 2006.

حدثني قليلاً عن الراحل قباني. وكنت عندما ألتقيه أغتنم الفرصة فأسأله عن جانب من حياة نزار، فيجيبني بكل أريحية، ولا سيما أيام المدرسة حينما كان يأتي لزملائه بالسكريات المنتجة في معمل أبيه المقيم في الشام القديمة، وكان حزني شديداً أن لا أسأله عن أيام الجامعة، ولا عن المرحلة بعد الجامعة، باستثناء ما تعلق بوفاة ابنه. وقد جلب لي في اللقاء الثاني مرثية نزار التي أدهشتني بصورها، وبكلماتها المبكية العذبة. ولم أقرأ لنزار في المراثي إلا مرثيته لابنه. وكنت قبل ذلك قد قرأت مرثيته الشهيرة لزوجه بلقيس حينما وصلت إلى دمشق بخط يده، فنفدت آلاف النسخ منذ ساعات الصباح الأولى.

ومثلما كنا نتحدث في الحزن والآلام، كانت لنا الأحاديث عن الراح والفرح، إنه يحب الحياة كثيراً. وكان في سنوات الكهولة لا يمل الحديث عن الشعر والمرأة، فقد كان يكتب الأشعار الغزلية حتى في تلك الأيام المتأخرة من العمر. ومثلما كان يكتب الشعر كان له العمل الدائم في الترجمة. وكان يعرف ما هي الأعمال التي يجب أن يترجمها، وما هي الشخصيات التي يجب أن يكتب عنها. وإن أحزانه الوحيدة أن لا يكتب عن نفسه كما كتب عن غيره. وإذا ما ملنا إلى التحليل في هذا الجانب فسنجد العديد من الكُتاب تجاوزوا الكتابة عن الذات لصالح الكتابة عن الناس والحياة، وبذلك عبروا عن التضحية في سبيل الآخرين، أولئك الذين تستوجب الكتابة عن أحزانهم وآلامهم، أو الذين خدموا الحياة بجدارة ولم تكتب الأقلام عنهم شيئاً.

وعلى هامش الحديث عن المرأة أود الإشارة إلى أن علاقة نزار وكمال بالمرأة كان لها ما يبررها بالعلاقات الشريفة النظيفة، وذلك أنها تبنى على أساس الحب والاحترام المتبادلين، ولأنها كذلك فإنها تختلف بشكلها ومضمونها عن العلاقات التي مثَّلها شعراء المجون في العصر العباسي الأول لاسيما علاقات المشارب والمعازف، وهي الأخرى تكثر في زماننا الراهن، ولكن راحلَيْنا لا يمثلان هذا الجانب لأنهما من المثقفين المتحضرين ولا ينتميان إلى أية مجموعة مبتذلة أو سيئة.

وأما أمنية كمال التي لم يُكتب النجاح لها، والتي بذل جهداً كبيراً في سبيل تحقيقها، فهي محاولته أن يحوِّل بيت نزار قباني إلى متحف. وراجع في سبيل ذلك أصدقاء ودوائر رسمية، وحين أوشكت الجهود أن تثمر اصطدم بعائق كبير وهو أن مشتري البيت طلب ثمانين مليوناً من الليرات السورية، فتعذر ذلك على المتعاونين مع كمال ومع جهوده. وأخيراً مات الشاعر كمال فوزي الشرابي في عام 2008 ولم تتحقق الأمنية الشريفة.

 

 

(*) صدرت مجلة (القيثارة) من العدد الأول حتى الثاني عشر، بين شهر حزيران من عام 1946 وشهر أيار من عام 1947. وكان اهتمامها بالمجمل ينصب على الشعر، ولأنها كذلك كتبت فيها أقلام شعرية مهمة، لا سيما شعراء الشعر الشعبي الذين كان من ضمنهم سعيد عقل، ميشيل طراد، رشيد نخلة. وأما شعراء الفصحى فقد كانوا كثيرين ومهمين، نذكر منهم: أحمد صافي النجفي. نديم محمد. أحمد الجندي. أدونيس. وقد أعادت وزارة الأعلام طباعة القيثارة في عام 2006.

العدد 1107 - 22/5/2024