سـورية القادمة ابنة الألم الشقي

 أكان لا بدّ أن نمرّ بكل هذا البرزخ الضيق من الألم، من الموت والدمار والتهجير، لنفكر في سورية جديدة؟

حوالي مليون قتيل منهم عشرات الآلاف ماتوا تحت التعذيب، سبعة ملايين مُهجّر داخل البلد، أكثر من خمسة ملايين مُهجّر خارجه، تدمير مدن وبلدات وقرى ومدن صناعية ومنشآت اقتصادية، وبنية تحتية، مئات آلاف المعتقلين والمخطوفين، عشرات آلاف المعوقين والمشوهين والمرضى النفسيين، شروخ هائلة في بنية المجتمع السوري يحتاج ترميمها إلى عشرات السنين من الدأب والجهد.

كل هذا وما زال من يرفض الاعتراف بأننا بحاجة إلى تغيير في كامل البنى السياسية والاقتصادية التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه، وتعلو نغمة الانتصار الوهمي، وهل من منتصر في حرب بين أهل البلد الواحد؟!

كلنا مهزومون حتى نثبت العكس.

مهزومون حتى نبدأ بناء سوريانا الجديدة، سورية الحلم القصي الذي تحدث عنه حنّا مينه وسعد الله ونوس، وعبد الرحمن منيف وفواز الساجر، وممدوح عدوان وحيدر حيدر، ونبيل سليمان وخالد خليفة وأسامة محمد ومحمد ملص، ومئات المئات من المبدعين الذين أنجبتهم سورية، ورأوا فيها ما يستدعي نقلها إلى العناية المشددة، دون أن تجد صرخاتهم آذاناً مصغية.

سورية الجديدة التي تبدأ من الإنسان، الإنسان الذي أصيب في روحه، الإنسان السوري الذي صنع تاريخاً من الإبداع والحضارة، أصبح (رجلاً مريضاً) كما البلد، ولا يمكن البدء بالعلاج قبل الاعتراف بالمرض، لنعترف بأننا مرضى أولاً، مرضى الأحادية في الفكر، مرضى التكفير ورفض الآخر، التكفير الذي تمارسه قوى ظلامية أصولية متخلفة نمارسه كلنا بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة، نمارسه حين نسارع إلى إلقاء شتى التهم على الآخر المختلف، الآخر الذي، في كثير من الأحيان، لا نراه إلاّ عميلاً وخائناً ومارقاً. ثم، بعد ذلك، ننطلق من الإنسان المعافى إلى إعمار الحجر والبنية التحتية والمعامل والمنشآت بأيدٍ سورية وبمساعدات دولية لا غنى عنها.

السوري يعيش على أمل العودة إلى حيّه المدمّر، وتفقّد ما تبقى من منزله، ثم يأتي دور البحث عن حلول، معجزات للبدء بإعادة الإعمار.

كيف سيتمكّن من لا يجد قوت يومه أن يُعيد إعمار منزل وما يلحق به من خدمات وملحقات؟! كيف سيتمكّن من ترميم مصدر رزقه، سواء كانت ورشة أم معملاً، أم سيارة أجرة، أم أرضاً زراعية أحرقتها الحرب وأيادي الناهبين ومجرمي الحرب؟! هي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها الآن ببساطة وسهولة، أسئلة ستأتي إجابتها من كاتب الأبجدية الأولى.

ما إن تضع هذه الحرب أوزارها حتى يحين موعد التفاتنا بعضنا إلى البعض الآخر، مؤيدين ومعارضين و(رماديين) وصامتين خوفاً أو طمعاً، نلتفت ونتساءل: ماذا فعلنا بأنفسنا وببلدنا؟!

المسامحة أولاً، وقد تحدثنا عنها في (النور) منذ أيام، ثم ترميم الأرواح بالتزامن مع ترميم العمران.

لي ثقة أن سورية جديدة جمهورية ديمقراطية علمانية حرة لجميع أبنائها، تحترم حقوق الإنسان وتعتمد المواطنة الحرة المتساوية، مع إعلام حر وبنّاء، وسلطات منفصلة (تشريعية وتنفيذية وقضائية) تمارس دورها كاملة ضمن تداول للسلطة تقرره صناديق اقتراع بلا ضغوط ولا خوف.

هذه هي باختصار سورية الجديّة والجديدة التي أحلم بها وسأسعى مع كثيرين من أبناء البلد لبنائها أو لإعادة بنائها.

العدد 1105 - 01/5/2024