الفلّاحة تلك القصة الحزينة

 ما زلت أحفظ قصة تلك المرأة الفولاذية من قريتي الصغيرة، المرأة التي كانت ذاهبة لتهيئ حمل القش الذي تجمعه القرويات بعد الحصاد، فتربطنه بطريقة تسهل عليهن حمله على ظهورهن لمسافات طويلة، من حقول القمح إلى بيادر القرية، ليتمّ درسها، ثم تصبح علفاً للحيوانات التي تقوم المرأة ذاتها بإطعامها وتنظيف (البايكات) من آثار روثها، الذي يُجمع ويُصب في قوالب أو يلصق على جدران البيوت لينشف ويصبح حطباً لمواقد الشتاء..

ما زلت أذكر حكايتها التي روتها أمي مراراً وما زالت.

كانت في أواخر الشهر التاسع من حملها، لكنها بهمة القروية قامت لتأتي بحمل الصباح مثل قريناتها، ثم جاءها المخاض بعد أن أعدّت حملها من القش، وليس ثمّة أحد في المدى المجدي لصراخها ليساعدها في الولادة، فوضعت مولودها هناك في هذه الأرض المحصودة للتو المليئة بالأشواك والتراب، وبقيت مشكلة الحبل السري للطفل المولود، ولم تجد معها سوى منجلها لتقطع به حبل السرة، ثم تأتي المفارقة الأكثر إيلاماً حين حملت وليدها مع حمل القش عائدة إلى القرية…

هل يمكن أن نقارن قصة هذه المرأة المناضلة، وهي نموذج لمعاناة المرأة الريفية مع ما تعيشه المرأة المدينية المعاصرة من دلال ورعاية واهتمام منذ شهور حملها الأولى، حتى تضع مولودها في مستشفى نظيف ومُعقّم، وغالباً ما تكون الولادة بعملية قيصرية حتى تختصر آلام المخاض؟

هل يمكن أن تُسنّ القوانين نفسها، والمطالب نفسها لهذه وتلك؟

أدعي أن الأمم المتحدة، بخبرائها المطلعين على الأوضاع الصعبة والمزرية للمرأة الريفية، قد بادرت إلى تخصيص هذا اليوم (15/10) ليكون بمثابة تبرئة ذمة أو إراحة من عذاب الضمير، إن كان هناك بقية من ضمير تجاه هذه المرأة الصبورة العنيدة المكافحة.

في العقود الاخيرة قبل الحرب اتجهت الدولة السورية إلى محاولات تخديم الريف بما أمكن من خدمات، من تمديد الكهرباء وشبكات المياه والطرقات، إلى إقامة مراكز صحية في بعض النواحي والبلدات، وبناء مدارس نموذجية في العديد من القرى التي كان أبناؤها يقطعون مسافات طويلة تحت الحرّ والمطر، وبين التراب والطين، للوصول إلى مدارسهم، أو يحرمون من التعليم لعدم توفر المدارس في قراهم.

هذه المعاناة للريف السوري، والشرقي عموماً، كانت مضاعفة بالنسبة للمرأة الريفية، فحقها في التعليم مهضوم غالباً إلاّ في حالات نادرة، وهي منذورة للعمل في الأرض والعناية بالمزروعات ثم القطاف والحصاد ثم التجميع وعمليات ما بعد القطاف، بمساعدة الرجال طبعاً، لكن الفرق أيضاً أنه مطلوب منها حين العودة من يوم عمل شاق أن تهتم بالأولاد والطبخ والنفخ والغسيل وترتيب البيت… الخ.

إنه أقرب إلى سجن للأشغال الشّاقة إذا ما فكرنا بمنطق العصر، وهو وضع ما زال قائماً في كثير من مناطق الريف السوري قبل الحرب، ثم زادته ظروف الحرب والدمار والحصار والتهجير سوءاً على سوء.

ما زالت عقليات القرون المُظلمة تحكم علاقة المرأة الريفية بالحياة والمجتمع والعصر، في سورية، وبدرجة أكبر في بلدان عربية وإسلامية محكومة بقوانين وأعراف لا تنتمي إلى العصر.

ما زال تعدد الزوجات، ورفض تعليم المرأة، والإنجاب بلا حدود، وغياب الرعاية الصحية، والجهل، وتحكم رجال جهلة بمصائر النساء، مظاهر طاغية في ريفنا، وازدادت أيضاً بعد الحرب، بتحكم فصائل مسلحة متشدّدة في مناطق كثيرة منه، ممّا ألغى حتى المنافذ الصغيرة التي كانت تتنفس منها المرأة الريفية، وأصبحت مُتهمة دائماً، إن خرجت من بيتها بلا مُحرم، وإن لبست قطعة لباس ملونة، إن تجرأت ووضعت بعض الماكياج الذي استطاعت الحصول عليه من (بسطات) المدن والبلدات القريبة، وإن فكّرت ولو مجرد تفكير في اختيار شريك حياتها.

 وتُجند في مناطق أخرى لتحمل السلاح وتحارب، أو تساهم في التسرية عن (المجاهدين) بـ(الحلال) طبعاً مادام شيخهم هو من يوزع الغنائم والسبايا…

اضطهاد المرأة أمر واقع في مجتمعات الشرق عموماً والمجتمعات الإسلامية خصوصاً، لكن الاضطهاد الأمرّ والأشنع هو ما تتعرض له المرأة الريفية، فهل يكفي يوم في العام لنتذكر هذا الكائن السجين؟! 

العدد 1107 - 22/5/2024