من لا يتقدَّم للأمام سيتراجع حكماً للخلف

( مين رضي… عاش…

لا ترفع راسك لفوق… بتنكسر رقبتك..

مد لحافك على قد رجليك…)

وغيرها الكثير من المقولات الشَّعبية والأمثال التي أمست بشكلٍ أو بآخر شكلاً من أشكال التَّربية المجتمعية السَّاعية للقبول بالواقع المُعاش، والتي لاقت قبولاً من البعض، إذ تمنحه هذه المقولات طمأنينة القناعة بما يعيشه أو يمتلكه لعدم قدرته على تغييره ” على الأقل في المرحلة الحالية “، وبهذا فهو يخفف آلامه النفسية وانعكاساتها على أوجه حياته برمتها، يعيش على تعزيز الثِّقة بأن قيمة الإنسان لها معايير متعددة، وأنه يمتلك إمكانية تحمُّل ما هو عليه اليوم لعلَّه ذات يومٍ يتغيّر لنحوٍ أفضل.

في حين رفضها البعض الآخر لأنه يعتبر هذا النوع من الثقافة إن تحوَّلت شعاراً للحياة فلسوف تُغلِقُ كلَّ منفذٍ للطموح وتعمل على إيقاف العقل عن ابتكار أفكارٍ جديدةٍ وخلَّاقةٍ من شأنها تغيير الوضع الحالي أو السَّعي لتطويره، فلو قنع كل الناس بما لديهم وما يملكون لما تطور العالم ووصل إلى ما وصله اليوم، ولما تعددت الطبقات الاجتماعية سواء على الصَّعيد الاقتصادي أو الثقافي أو التربوي أو السياسي وووو إلخ. فالقناعة ليست من بديهيات النفس البشرية التي هي في حالة بحثٍ دائمٍ عن الكمال، فكل شخص ما إن يصل إلى رغبةٍ أو طموحٍ أو حلمٍ إلاّ وينتقل ليفكِّر ويخطِّط لغيره لشعوره الدَّائم بأن شيئاً ما ينقصه، ومن هنا جاء التَّطور بمختلف أشكاله، وأيضاً الاختلاف والتغيير.

فالفقير يعمل على إقناع نفسه بتلك المقولات لعدم قدرته على امتلاك المال الذي يقيه شر فقره، لكنه بذات الوقت يحلم ويأمل بأن يستيقظ ذات صباح على حال أفضل ممّا هو عليه. إنما هناك من يتناسى حلمه ويقبل بواقعه كما هو بينما يوجد من لا يقنع ولا يستكين فيعمل على تحسين واقعه مستخدماً الوسائل التي يراها متناسبة مع شخصيته، وكذلك صاحب الخبرات والطَّاقات يحلم بأن يعمل بما يتناسب مع طاقاته وقدراته ومستواه العلمي، والإنسان الذي سافر ليحيا على نحوٍ أفضل ممّا كان عليه في بلاده وقد امتلك مقومات الحياة التي كان يحلم بها يبقى يئن ويحن ويسعى للعودة لأنه كسب شيئاً مقابل خسارته لأشياء أخرى أدرك لاحقاً أهميتها في تكوينه الشخصي… والأمثلة كثيرة لا تحصى.

إذاً… من رضي عاش، لكنه سيبقى على عيشته تلك مدى الحياة، ومن لم يحاول رفع رأسه للأعلى ولو قليلاً سيبقى مجال الرؤية لديه ضمن مستوىً معين… وكأن مبدأ الطموح والأمل قد اندثر واختفى…

يمكننا الجمع بين القناعة والطُّموح، لنتمكّن من المضي ببعض الهدوء والاستقرار النفسي ريثما نحوِّل الحلم واقعاً ويتحقَّق المنال، فالرَّفض الدائم يسبب كوارث لا حصر لها على كافة الأصعدة ولا سيما المجتمعية والتَّربوية والنَّفسية، وكذلك فإن الاستكانة وعدم السَّعي للتَّغيير تحمل ما تحمله من تخلفٍ وتراجع، ذلك بأن دوام الحال من المحال، فمن لا يتقدَّم نحو الأمام هو حكماً متراجعٌ للخلف..

 

العدد 1107 - 22/5/2024