الرضا بغير موضعه هزيمة

لا شكّ أن المقولات والأمثال الشعبية في أيّ مجتمع، هي نتاج تجارب وتاريخ الشعوب، مثلما هي بوصلة تُحدد مسار الكثيرين ممّن يلوذون بها إمّا بحثاً عن الأفضل أو تشبثاً بواقع لا شكّ أنه غير سوي. ونحن في الشرق عموماً، والمجتمعات العربية خصوصاً، نُعتبر مجتمعات اتكالية إلى حدّ كبير في معظم أمورنا الشخصية أو العامّة. لذا تأتي العديد من تلك الأمثال والأقوال المأثورة متماهية ولا شك مع تلك الاتكالية السلبية التي يلوذ بها الكثيرون ممّن يعتبرونها أيقونة تُقعدهم عن التفكير وبُعد النظر، ومن ثمّ القبول بما وجدوا أنفسهم عليه حتى آخر المطاف من حياتهم.

ولا أدلّ من مقولة (مين رضي عاش) تلك التي توحي لنا ظاهرياً بالقناعة والرضا الإيجابي ربما، لكنها تحمل بين طيّات حروفها مضامين ليست جميعها إيجابية. إذاً هي مقولة تحتمل وجهين، أولهما القناعة حين تكون الحياة بسيطة خالية من احتياجات معقّدة مادياً ومعنوياً، لاسيما في عصرنا هذا الذي يتسم بتتالي المنتجات الإلكترونية وسواها، والتي بات وجودها مصدر تعب للعديد من الناس بسبب عدم القدرة على امتلاكها، أو محاولة امتلاكها ولو على حساب احتياجات أخرى أكثر ضرورة وأهمية. هنا، وإذا ما تمثّل الإنسان مقولة (مين رضي عاش)، فإنه لا شكّ سيقتنع ويُقدّر وضعه وإمكاناته المحدودة فلا يتضايق لأنه لا يمتلكها. إذاً هي هنا تُمثّل القناعة والرضا بما نملك مادياً ومعنوياً، مثلما تُمثّل تحديد الأولويات التي نحتاجها.

أمّا في الاتجاه المقابل أو الثاني، فإنها تحمل الوجه السلبي الذي يتمثّل بالانصياع والقبول بالواقع كما هو دون أيّة محاولة للتغيير أو السعي باتجاه الأفضل، أي أنها تدعو للحدّ من الطموح الذي لا يتعايش ولا يتجانس بأي شكل من الأشكال مع قناعة الخنوع وعدم التحدي والإصرار على مختلف المستويات والاتجاهات المادية والمعنوية (حقوقية، علمية، سياسية… الخ) لتقبع هنا في خانة الخنوع والهزيمة الداخلية التي تُعيق تفكيرنا بواقعنا الذي ينتظر من الجميع العمل على تغيير مساراته السلبية سعياً باتجاه تحديد مسارات وآفاق إيجابية تنهض بنا أفراداً ومجتمعات وحكومات من قاع تخلفنا وصولاً إلى مستوىً حضاري وإنساني يليق بإنسانيتنا وما نحمله من وعي يؤهلنا بالتأكيد لحياة تنعم بالحرية والمعرفة والرفاه الذي لا شكّ تحتاجه شعوبنا التي فُطرت منذ عهود على الاستكانة والتسليم بواقعها في مختلف مستوياته المادية أو المعنوية والفكرية، بما فرضته عليها مثل هذه المقولات التي يُعززها رجال الدين أو الساسة أو حتى بعض المثقفين والمفكرين الذين يُنَظّرون ويراوغون من أجل أهداف ومنافع شخصية آنية لا تخدم سواهم.

(مين رضي عاش) هي إذاً مقولة إن لم تمثّل الوجه الأول، فهي بالتأكيد هزيمة داخلية وحركية تُقعدنا عن المضي باتجاه إنسانيتنا الحقيقية الساعية والسامية أبداً للأفضل. 

العدد 1107 - 22/5/2024